آخر تحديث:

بقلم:د. نوري حسين نور الهاشمي

في منطقة تتحرّك فيها المصالح الاقتصادية كأذرع خفية تعيد رسم الخرائط الجيوسياسية، لم تعد الاتفاقيات التجارية مجرّد أدوات بريئة لتنظيم التبادل، بل تحوّلت إلى رافعات نفوذ تُستخدم بذكاء للسيطرة على الممرات، وخنق الخصوم اقتصاديًا تحت غطاء التعاون.

ومن هذا الباب، تبدو اتفاقية التجارة الحرة بين العراق والكويت أبعد ما تكون عن مجرد تفاهم اقتصادي؛ فهي حلقة جديدة في سلسلة إعادة تموضع إقليمي، تتقاطع فيها خطوط “طريق الحرير” الصيني مع طموحات الكويت في تحويل ميناء مبارك الكبير إلى عقدة بحرية كبرى، حتى وإن استلزم الأمر تجاوز الحدود، وتطويع الخرائط، وإضعاف السيادة العراقية.

فالإصرار الكويتي على السيطرة الكاملة على خور عبد الله، لم يعد مجرد طموح اقتصادي، بل شرط ابتزازي مغلّف بالديبلوماسية، يرهن مصالح العراق لمعادلات إقليمية تُطبخ في الغرف المغلقة، على مرأى من صمت رسمي ومقاومة شعبية تتصاعد.

هذه الاتفاقية—التي لا تتجاوز ثماني صفحات، وتضم 19 مادة—قد تبدو للوهلة الأولى بسيطة الشكل، لكنها في حقيقتها أداة سياسية مموّهة، تُخفي بين سطورها مادة مفصلية (المادة 14)، تُعيد فتح ملفات جيوسياسية معلّقة منذ عقدين، أبرزها ملف السيطرة الكويتية على خور عبد الله كشرط لتمرير الربط البري مع أوروبا، والتكامل مع مشاريع ميناء مبارك الكبير، ضمن إطار يعيد رسم خارطة النفوذ البحري والبري في المنطقة، ويُقصي العراق فعليًا من أي دور سيادي في إدارة حدوده وممراته الاستراتيجية.

في هذا المقال، لا نكتفي بقراءة نص الاتفاقية، بل نسعى لتفكيك خطابها، ونزع قناع “التعاون الثنائي” عن وثيقة تُروّج كخطوة اقتصادية، بينما تخفي في جوهرها إعادة إنتاج دور “الممر التابع” للعراق، بواجهة ناعمة وخطاب دبلوماسي مخادع. فالمستفيد الحقيقي، وربما الوحيد، هو الكويت، التي تُمهّد عبر هذه الاتفاقية لفرض هيمنة جغرافية واقتصادية متكاملة، تبدأ من السيطرة على خور عبد الله، ولا تنتهي عند خنق الموانئ العراقية وتهميش موقع العراق الاستراتيجي في خارطة التجارة الإقليمية والدولية.

ومن منظور العلاقات الدولية والاقتصاد السياسي، فإن الاتفاقيات الثنائية ليست مجرد تفاهمات فنية، بل أدوات سيادية خطيرة تُعيد رسم موازين النفوذ. وكل بند فيها يحمل في طياته تموضعًا استراتيجيًا قد يُستخدم لاحقًا لتهميش أحد الأطراف أو ابتزازه. هذا ما يتجلى في مشروع تحويل خور عبد الله إلى نقطة ارتكاز بحرية لصالح الكويت، في ظل غياب تام للرؤية العراقية، واكتفاء برلمان مُسيّس بتمرير اتفاق يمس جوهر السيادة.

ولعل الأخطر من كل ذلك، هو تجاهل الإرادة الشعبية الرافضة لهذا التنازل، والتي عبّرت عنها جميع أطياف المجتمع العراقي بوضوح لا لبس فيه. فقد انطلقت مظاهرات ووقفات احتجاجية في معظم المدن العراقية، رُفعت فيها شعارات تُندد بالتفريط بخور عبد الله وتحمّل الطبقة السياسية مسؤولية هذا الانحدار السيادي. ولم يقتصر الرفض على الشارع المدني، بل امتد إلى المنابر الدينية، بما في ذلك المنابر الحسينية، التي صدحت برفض صريح لأي تفريط بالأرض والمياه العراقية. ورغم هذا الرفض الشعبي العارم، تصرّ السلطات على تمرير الاتفاق من خلال برلمان مسلوب الإرادة، متجاهلة المطالبات الواضحة بإخضاع هذا الملف الحساس لاستفتاء عام. فالممرات البحرية والحدود ليست أوراق تفاوضية بين ساسة مرتهنين، بل حقوق وطنية لا يملك أن يقرّ بها أو يتنازل عنها أحد سوى الشعب نفسه.

وفي الوقت الذي تُمرَّر فيه مثل هذه الاتفاقيات في العراق خلف الأبواب المغلقة، نجد أن دولًا ديمقراطية ذات تقاليد دستورية راسخة تلجأ إلى الإرادة الشعبية حتى في ملفات أقل حساسية من التنازل عن السيادة. فالمملكة المتحدة، على سبيل المثال، طرحت في عامي 1975 و2003 فكرة الانضمام إلى العملة الأوروبية الموحدة (اليورو)، لكنها امتنعت عن ذلك بعد جدل شعبي واسع، واحتفظت بالجنيه الإسترليني نتيجة لرفض الناخبين التفريط بالرمزية والسيادة النقدية. وفي استفتاء 2016، صوت البريطانيون بنسبة 51.9% لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، معتبرين أن السيادة الوطنية أهم من المنافع الاقتصادية المشتركة.

ولم تكن بريطانيا وحدها. ففي 1 أكتوبر 2017، أجرى إقليم كتالونيا استفتاءً شعبيًا للانفصال عن إسبانيا، وشارك فيه أكثر من 2.2 مليون ناخب، صوّت 90% منهم لصالح الاستقلال. وفي 18 سبتمبر 2014، شهدت اسكتلندا استفتاءً قانونيًا على الاستقلال عن المملكة المتحدة، وشارك فيه أكثر من 3.6 مليون ناخب، وانتهى برفض الاستقلال بنسبة 55.3%، لكنه مثّل نموذجًا ناضجًا لاحترام خيارات الشعب. أما في كندا، فقد شهد إقليم كيبيك استفتاءين على الانفصال، الأول في 1980 (رفض بنسبة 59.6%)، والثاني في 1995، بفارق ضئيل بلغ 50.6% ضد الاستقلال.

فهل يُعقل أن تكون العملة الوطنية في بريطانيا، أو الهوية الثقافية في كتالونيا، أو العلاقة الاتحادية في كيبيك، أهم من سيادة العراق على ممره البحري الحيوي خور عبد الله؟

إذا كانت الديمقراطية تُقاس بمدى احترام صوت الشعب في القضايا المصيرية، فإن تمرير اتفاق يمس الأرض والمياه دون استفتاء شعبي لا يمثل فقط انحرافًا سياسيًا، بل انتقاصًا فجًا من مبدأ السيادة ذاته.ولهذا، فإن أي محاولة لشرعنة التنازل عن خور عبد الله—بأي صيغة كانت—لن تكتسب أي قيمة وطنية أو قانونية ما لم تُعرض مباشرة على الشعب، بوصفه وحده صاحب الحق في تحديد مصير وطنه.

ولعل الدرس الأوضح على خطورة تغييب الإرادة الشعبية، يتمثل في اتفاقية الجزائر لعام 1975، التي وقعها النظام العراقي السابق مع إيران، وتنازل فيها بشكل مفاجئ عن نصف مياه شط العرب، دون أي تفويض شعبي. لا تزال تلك الاتفاقية موضع رفض شعبي وسياسي، وتُعد قانونيًا قابلة للطعن، لأنها لم تُستمد من استفتاء عام، بل فُرضت فرضًا، ثم أصبحت عبئًا سياديًا على الدولة العراقية.

ثم تكرر المشهد في بداية التسعينيات، بعد حرب الخليج الثانية، حين أُبعد المنفذ الحدودي الرسمي مع الأردن من “الرويشد” إلى “طريبيل”، داخل العمق العراقي، ما أدى إلى تراجع خط السيادة الميدانية وخسارة مسافة استراتيجية من الأراضي العراقية، دون إعلان أو وثيقة رسمية، وفي مناخ من التراجع السياسي والانكشاف الوطني.إن هذه النماذج—من شط العرب إلى طريبيل، وصولًا إلى خور عبد الله—لا تمثل حوادث عرضية، بل تشكّل نمطًا سياسيًا ممنهجًا، قوامه القرار الفردي والتنازل غير المشروط في غياب كامل للإرادة الشعبية.والنتيجة أن العراق ينزف من أطرافه بهدوء، دون أن يُسمح للشعب حتى بأن يقول: لا.

واليوم، يبدو أن التاريخ لا يعيد نفسه صدفة، بل لأن الساسة يصرّون على تكرار أخطاء من سبقهم. وما بين اتفاقية الجزائر 1975 واتفاق خور عبد الله 2023، لا يُقاس الزمن بالسنوات، بل بالمسافة المتآكلة من سيادة العراق.إذا كانت الشعوب تُستفتى على عملاتها، فكيف تُصادر إرادتها في حدودها؟ وإذا كان العراق قد دفع ثمن تنازل واحد لعقود، فهل يُطيق أن يدفع ثمن تنازل جديد لا يقل كارثية؟ الجواب واضح: لا شرعية لأي اتفاق لا يُعرض على الشعب، ولا تُصان السيادة إلا بإرادة من يملكون الأرض، لا من يوقّعون باسمها. نتابع في الجزء الثاني….

شاركها.