آخر تحديث:
بغداد/ شبكة أخبار العراق قال الخبير الاقتصادي نبيل المرسومي ،الخميس، إن “تقرير الفقر المتعدد الأبعاد الذي صدر في العراق أظهر أن 36.8% من العراقيين، أي ما يقارب 17 مليون شخص، يعانون من فقر متعدد الأبعاد، يُقاس بخمس مؤشرات أساسية هي التعليم، والصحة، ومستوى المعيشة، والعمل، والصدمات”. وأضاف أن “17.5% من العراقيين يعانون من فقر الدخل، أي يعيشون على متوسط دخل شهري يقل عن 137 ألف دينار”، وهو الخط الذي حددته وزارة التخطيط كمعيار للفقر النقدي. هذه الأرقام، وإن بدت متناقضة ظاهريًا، إلا أنها تعكس اختلاف المنهجيات بين من يقيس الفقر عبر الدخل المباشر، ومن يتتبع ظلاله في تفاصيل الحياة اليومية.
تُشير تقارير البنك الدولي ووزارة التخطيط إلى أن فقر الدخل في العراق انخفض خلال العامين الأخيرين إلى حدود 17.5%، بعد أن كان يتراوح بين 21 و24% في عام 2022. ويُعزى هذا التراجع إلى توسع برامج الحماية الاجتماعية وتعزيز البطاقة التموينية ودعم بعض الشرائح التعليمية والصحية. لكنّ الفقر المتعدد الأبعاد، بحسب بيانات الأمم المتحدة لعام 2025، لا يزال يطال نحو 17.7% من السكان كمعدل وطني، فيما تبلغ قيمة مؤشر الحرمان المركب (M0) نحو 10.8% بعد أن كانت 11.4% في عام 2018، ما يعني أن الفقر في العراق لم يعد يقتصر على الأجور المنخفضة، بل يمتد إلى ضعف البنى التحتية وانحسار الخدمات وفرص العمل.
هذا الانقسام بين فقر الدخل وفقر الأبعاد يعكس ما يسميه الباحثون «الازدواج الهيكلي للفقر». فبينما تنجح الدولة في رفع بعض الأسر فوق خط الفقر النقدي، تبقى تلك الأسر أسيرة حرمانٍ غير منظور في التعليم والصحة والسكن والفرص. نصف أطفال العراق تقريبًا يعيشون حالة فقر متعدد الأبعاد وفق وثيقة أممية حديثة، ما يعني أن الحرمان يتناسل عبر الأجيال. وتُظهر الإحصاءات أن مشاركة النساء في سوق العمل لا تتجاوز 11%، وهو ما يكرّس بُعدًا جديدًا للفقر قائمًا على غياب التمكين الاقتصادي للمرأة والأسرة معًا.
ويرى مختصون في التنمية أن هذه الأرقام تُبرز تحوّل طبيعة الفقر في العراق من ظاهرة نقدية إلى ظاهرة بنيوية. فالمواطن الذي يتقاضى راتبًا بالكاد يغطي معيشته، ويعيش في منطقة بلا خدمات صحية أو تعليمية أو بنية مائية، يُعد فقيرًا بالمعنى الأوسع حتى إن تجاوز خط الدخل المحدد. وتُشير قراءات الأمم المتحدة إلى أن الـ36.8% الذين تحدّث عنهم المرسومي يُمثلون شريحة «قريبة من الفقر» أو فئة الهشاشة الاجتماعية، وهي الفئة التي يمكن أن تسقط مجددًا في الفقر بمجرد حدوث صدمة اقتصادية أو بيئية، كهبوط أسعار النفط أو الجفاف أو العواصف الترابية.
ويفسر خبراء الاقتصاد هذه الهشاشة بأنها نتيجة مباشرة لطبيعة الاقتصاد الريعي الذي يربط الدخل العام بقطاع النفط. فكلما هبط سعر البرميل، تتراجع قدرة الدولة على تمويل التعليم والصحة والمشاريع التنموية، وتزداد بالتالي الفجوة بين الطبقات. وفي المقابل، لم تنجح سياسات التوظيف الحكومي أو الدعم النقدي في خلق مسارٍ مستدام للحد من الفقر، لأنها عالجت العرض دون الأسباب. إذ تُظهر بيانات التخطيط أن توزيع الموارد يتركّز في المدن الكبرى، بينما تترك المحافظات الريفية وأقضية الجنوب تحت رحمة التهميش. في إقليم كردستان مثلاً، انخفضت نسب الفقر إلى نحو 89%، في حين ترتفع في محافظات مثل المثنى وذي قار إلى ضعف هذا الرقم.
وتشير تحليلات بحثية إلى أن أي معالجة جذرية للفقر في العراق يجب أن تأخذ بعين الاعتبار ارتباطه بعوامل قطع المياه من قبل إيران على العراق وتخفيض المياه من قبل نركيا في نهري دجلة والفرات بسبب ضعف وفشل وفساد الحكومة الإطارية برئاسة السوداني. فموجات الجفاف والتصحر أفقدت آلاف المزارعين مصادر رزقهم، ودفعتهم نحو البطالة والهجرة القسرية داخل البلاد، ما ضاعف الضغط على المدن ورفع نسب الفقر الحضري. وتؤكد الدراسات أن الفقر البيئي أصبح جزءًا من المعادلة الجديدة للفقر المتعدد الأبعاد، إذ يمتزج فقدان الموارد الطبيعية مع انعدام الخدمات الأساسية، ليشكّل دائرة مغلقة من الحرمان يصعب كسرها بالسياسات التقليدية.ويرى مراقبون اقتصاديون، أن العراق اليوم يقف أمام مفترق طرق: فإما أن يُترجم تحسّن الأرقام الاقتصادية إلى تحسّن حقيقي في حياة الناس، أو أن تبقى المؤشرات مجرّد واجهة لواقعٍ تتسع فيه دوائر الحرمان. فالفقر هنا لم يعد مسألة مال فقط، بل مسألة معنى وعدالة وكرامة.