لقد لعب البريطانيون الدور الأبرز في قمع الانتفاضة الشعبية في الكويت عام 1939، إذ أدركوا أن سقوط حكم آل الصباح أو انجراف الكويت نحو العراق سيقوّض إحدى أهم ركائز استراتيجيتهم في الخليج العربي. فلم تكن الكويت مجرد إمارة صغيرة على الضفة الغربية للخليج، بل عقدة مواصلات بحرية ومخزن نفوذ يضمن لبريطانيا السيطرة على خطوط الملاحة، وحماية مصالحها النفطية، وإبقاء التوازن الإقليمي على الصورة التي تناسبها وتحدّ من أي صعود عراقي وحدوي. لهذا كثّفت بريطانيا تدخلها المباشر، فعزّزت وجودها العسكري والاستخباري، وقدّمت الغطاء السياسي الكامل للأمير أحمد الجابر كي يُحكم قبضته على مفاصل الدولة. رافق ذلك مراقبة دقيقة للنشاطات الشعبية والسياسية، وتشديد أدوات القمع، وتقييد الصحافة والمنتديات، مع إعادة ترتيب منظومة الولاءات المحلية بحيث تبقى السلطة قائمة بوصفها شريكًا مطيعًا للمندوب البريطاني، لا معبّرًا عن المزاج الشعبي. كانت الكويت بالنسبة للندن ميناءً آمنًا ومحطة وقود حيوية لأساطيلها، ومركزًا تجاريًا يتيح لها التحكم في بوابة الخليج. ومن هنا مارست بريطانيا ضغطًا هائلًا على الأمير لتشديد قبضته، وأمّنت له الدعم العسكري اللازم لإخماد المظاهرات. وبالتوازي مع العصا الأمنية، جرى استخدام أدوات “شرعنة” شكلية تُظهر الحكم بمظهر الدولة الحديثة، مع إبقاء القرار الاستراتيجي في يد المستشارين البريطانيين. على المستوى الشعبي، خلّفت أحداث 1939 جرحًا عميقًا في الذاكرة الكويتية؛ إذ شعر كثيرون أنهم حُرموا فرصة تاريخية لإعادة وصل ما انقطع بينهم وبين العراق. ومع الزمن، لم تختفِ هذه القناعة، بل بقيت كامنة في وجدان تيارات وطنية ترى في الكويت امتدادًا طبيعيًا للعراق، حتى وإن أُجبرت على الصمت تحت وطأة القمع. وقد غذّى هذا الشعور تداخلٌ اجتماعي وثقافي طويل: لغة ولهجة ودين وعادات مشتركة، ومصاهرات ممتدة عبر حدود رسمها الاستعمار على الورق أكثر مما رسّخها في الوعي. أثبتت تجربة 1939 أن الهوية الوطنية في الكويت لم تكن قد استقرّت بعد، وأن الانتماء العراقي ظل حاضرًا بقوة في نفوس قطاعات واسعة، بينما ظل الحكم المحلي يستند في شرعيته إلى المظلّة البريطانية. وهكذا تحولت المظاهرات إلى شهادة تاريخية حيّة على التناقض بين تطلعات الجماهير إلى وحدة قومية، وبين تمسّك قوة استعمارية وطبقة حاكمة استمدّت وجودها من الخارج أكثر مما استمدّته من ارتباطها بالأرض. وفي هذا السياق، غدا التيار الوطني صداعًا مزمنًا للأمير أحمد الجابر؛ فكيف يمكن التوفيق بين أجندة حاكم متشبّث بمنصبه وصلاحياته ويستمد أمنه من الخارج، وبين شعب يعتبر استمرار هذا الترتيب امتدادًا للهيمنة الأجنبية؟ بدا الحكم، في نظر كثيرين، ككيان مفروض قسرًا على بيئتهم التاريخية، لا يعكس إرادتهم ولا هويتهم، ما جعل كل محاولة لإرساء شرعية حقيقية مرهقة ومعرّضة للاهتزاز، وأشعل صدامًا دائمًا بين إرادة السلطة وأحلام الجماهير بالعودة إلى أصلهم التاريخي. استمرّت المصادمات لتكشف عمق الهوة بين شرعية مفروضة من الخارج وشرعية مستمدّة من ارتباط السكان بتاريخهم وجغرافيتهم، فصارت كل محاولة للتقريب بينهما عسيرة، وأضحى التوافق الحقيقي بين الحاكم والناس هدفًا بعيد المنال ما دامت المرجعية النهائية خارج الحدود. وبحسب كتاب «أسوار الطين في عقدة الكويت وأيديولوجيا الضم» (1996) لحسن العلوي، بلغت نهاية الثلاثينيات ذروة انجذاب المجتمع الكويتي إلى النموذج العراقي؛ إذ ظهر العراق في نظر الكويتيين دولة قادرة على توفير ما عجزت عنه السلطة المحلية من تعليم وصحة وبنية تحتية، بينما ظلت الكويت تحت إدارة آل الصباح رهينة ضعف الإمكانات وتبعية القرار للمستشارين البريطانيين. وقد عزّز هذا الواقع اقتناعًا شعبيًا بأن العراق يمثّل الامتداد الطبيعي لطموحاتهم الوطنية. هنا التقط الملك غازي اللحظة التاريخية؛ فاستثمر حالة الانجذاب هذه وإحساس الكويتيين بالانتماء إلى “الوطن الأم”، وبادر إلى إعلان رغبته في ضم الكويت إلى العراق علنًا، وذلك في خطابه الإذاعي الشهير أواخر عام 1938. لم يكن ذلك نزوة عاطفية أو شعارًا خطابيًا، بل تعبيرًا عن رؤية دولة تتبنّى مشروعًا وحدويًا تعتبره واجبًا سياسيًا وأخلاقيًا تجاه شعبٍ يرى في بغداد حاضنته الطبيعية. قدّم غازي نفسه نصيرًا للوحدة العربية، وحوّل مطلب الضم إلى حجر زاوية في الوعي السياسي العراقي، ثم ورّثه لمن جاء بعده بصيغ تتكيّف مع ظروف كل عصر وأدواته. جاء الرد البريطاني حازمًا؛ إذ رُفع منسوب الوجود العسكري والاستخباري، ووُثّق التنسيق مع أسرة آل الصباح، مع رسالة واضحة: بقاء الحكم مرهون بالتحالف مع بريطانيا والوقوف في وجه “الأطماع العراقية”. وعلى الجبهة الإعلامية، شُنّت حملة منظمة لتشويه صورة الملك غازي ووصفه بالمتهوّر، وتقديم مساعيه الوحدوية كغطاء للتوسع و“ابتلاع” الجيران، بهدف تثبيت الوضع القائم وحماية النفوذ البريطاني في الخليج.ولم يخلُ البيت الخليجي من القلق؛ فقد رأت عواصم خليجية عدّة، خصوصًا تلك المعتمدة على الحماية البريطانية، أن خطاب الملك غازي يفتح بابًا خطيرًا قد يشجّع شعوبها على المطالبة بالانضمام إلى كيانات أكبر أو التحرّر من الهيمنة. لذا اتُخذت مواقف متحفّظة، بل وعدائية أحيانًا، تجاه مشروعه، بوصفه تهديدًا مباشرًا لبنية سياسية نشأت وترعرعت في كنف الاستعمار. يتواصل النقاش في الجزء الرابع…