بعد نحو قرنٍ من ولادة السيريالية؛ نجد فناناتٍ شابات أصبحن وريثات من سبقهن من أمثال الفنانة “ليونور فيني” (إيطالية أرجنتينية، 19071996. المترجمة) والفنانة “ليونورا كارينجتون” (بريطانية مكسيكية. 19172011. المترجمة) و”ميريت أوبنهايم” (ألمانية سويسرية. 1913 1985. المترجمة).لفترة طويلة، كانت تلك الفنانات مجرد شخصيات غامضة؛ قدر تعلُّق الأمر بالذاكرة العامة على أي حال.. لكن فنونهن الثرية المعقدة أصبحت محورا تسلطت عليه الأضواء في السنوات القليلة الماضية.هؤلاء الفنانات وأخرياتٍ مثل: “توين” (19021980)، و”ريميديوس فارو” (19081963)، و”كاي سيج” (18981963)، و”فالنتين هوغو” (18871968) هن بعض الفنانات اللواتي بدأن ينلن حقهن من الاهتمام المُستَحَق؛ منذ بينالي فينيسيا عام 2022 (تحت إشراف “سيسيليا أليماني”).أعطت أليماني للمعرض عنوان “حليب الأحلام” (وهو عنوان كتاب للرسامة السريالية ليونورا كارينجتون).بعد مئة عام من ولادة الحركة السريالية؛ التي أعلنها رسميا “أندريه بريتونAndré Breton “ حينما نشر “بيان التأسيس “عام 1924؛ أصبحت المعارض التكريمية أمرا ضروريا؛ بما فيها ذلك معارض أُقيمت في باريس وبروكسل وغيرها. الآن يستكشف الفنانون المعاصرون مدى تأثير “الحليب” الذي ذكرته كارينجتون في أعمالهم، وكيف ألهمهم رواد السريالية اليوم..
“أُسرة الفنانات”
تقول الفنانة “مارغريت هيمو” (تشكيلية فرنسية من مواليد 1986)، إنها حينما دُعيت للمشاركة في بينالي البندقية من قبل سيسيليا أليماني؛ أحست بأنها.. “تنتمي لأسرة الفنانات السرياليات”.. تنحدر صور المخلوقات في نتاجات هيمو بوضوح من الأسطورية الخيالية العلمية للسريالية؛ لتذكرنا بوعي فناناتٍ مثل كارينجتون وفيني بالانتماء إلى عالم تترابط فيه جميع الكائنات الحية؛ سواء كانت حيوانية أو نباتية أو معدنية، فضلاً عن المناظر الطبيعية الميتافيزيقية التي رسمتها “كاي سيج”.
أما “تاسيتا دين” (من مواليد 1965)، وهي من محبي نظرية “أندريه بريتون” عن “الصدفة الموضوعية”، فاستلهمت من أعمال الرسامة والمصورة الأرجنتينية البريطانية “إيلين آغار” (18991991) وصورها الملتقطة عام 1936 للأحجار في بريتاني بفرنسا؛ وهي صور تصفها بأنها مليئة.. “بالخفة والمرح وإعادة التخيل”.
تجمع “دين” الأحجار بنفسها، مواصلة البحث عن.. “تحولات الأشكال”.
ولم تُخفِ الفنانة الإيطالية “جوليا أندرياني” (من مواليد 1985) أبدًا إعجابها بالألمانية “هانا هوش” (18891978)، المعروفة بأعمالها المركبة المعقدة والمرحة من الكولاج ومونتاج الصور؛ قائلة: “ربما كان استخدامي للون واحد (وهو لون رمادي مُزرق) نابعا من الحبر القديم المائل إلى الزرقة في ألوان “هوش” المائية وأعمالها المركبة.. كانت متحدية ومنحازة للنسوية، وقفت في وجه تعصب معاصريها من الذكور، ولم تتوقف أبدا عن اختبار كيفية تصوير الأنوثة في أعمالها”.
استكشفت الفنانات السرياليات حقولا واسعة ومتنوعة من مجالات الفن المختلفة؛ وكان هذا بالنسبة لــ”أولا فون براندنبورغ” (مواليد 1974)، التي امتد عملها إلى السينما والأداء وتصميم المسرح، يشكل أرضاً إبداعية خصبة.تشبه أفلامها القصيرة بالأبيض والأسود أعمال المخرجة الفرنسية جيرمين دولاك (18821942) الغريبة، في حين تستحضر رقصاتها في الأذهان الراقصة الألمانية “ماري ويجمان” (18861973)، التي ألهمت أيضا لوحاتها المائية.تقول فون براندنبورغ: “إن الرقص هو وسيلة “لقول الأشياء من دون الحاجة إلى استخدام الكلمات.لم يعمل مصممو الرقص (مثل ماري ويجمان وجريت بالوكا ولوي فولر) ضد الجسم؛ بل استخدموا طاقته وحركته الطبيعية”.
فن ضد القيود
رغم أن الفنانة التشيكية “إيفا كوتاتكوفا” (من مواليد 1982) استوحت أعمالها من صناع الأفلام الطليعيين؛ لكنها تأثرت أيضاً بالتاريخ الغني للسريالية التشيكية؛ وهي حركة صاغها الرسام “توين”، إلى جانب “جيندريش ستايرسكي” (18991942) و”فيتيزلاف نيزفال” (19001958).في خزائن نتاجاتها الخاصة وعروضها المسرحية؛ كان انعتاق الجسد هو ما يتبدى على خشبة المسرح؛ محررا نفسه من الهيمنة: هيمنة الإدارة وقوالب الطب النفسي، والتعليم.. هنا يتحرر العقل الباطن أخيرا من قفصه..
لطالما كانت الفنانات السرياليات نماذج للمقاومة ضد كل أشكال القيود؛ وهذا ما تؤكده أعمال الفنانة الفرنسية “هيلين ديلبرات” (مواليد 1957).. اعتمدت ديلبرات قبل عشرين عاما تسريحة شعر راديكالية؛ قائلة عن ذلك؛ كما تُوضح فنانة كثيرا ما ينطوي عملها على إخفاء نفسها خلف أقنعة وشخصيات: “لقد تخيلت حقا أن يكون لدي رأس مستدير، مثل الصفر.
وعندما فعلت ذلك أخيراً؛ اكتشفتُ شخصا لم أكن أعرفه.. وقد جعلني ذلك أكثر ثقة”. تخطت ديلبرات المرآة وسافرت عبر الزمن وعبر القرن بأسلوبها الفريد، ومن خلال سلسلة أعمالها.. عكست منظور الفنانين الذين أثروا في عملها؛ مثل النبيلة الإيطالية رائدة التصوير الفوتوغرافي “لا كاستيجليوني” (18371899) أو المصورة الفوتوغرافية البريطانية “مدام إيفوند” (18931975)، التي صورت نفسها في ثلاثينيات القرن الماضي على هيئة آلهة الأساطير.
تلك كانت قبيلتها؛ الأشخاص الذين.. “يجرؤون على النظر مباشرة إلى العدسة وزناد الكاميرا في أيديهم؛ من دون القلق بشأن إرضاء الآخرين… أو حتى إرضاء أنفسهم.. أولئك الذين لا يخافون من “أن يكونوا مرئيين”.ولا يخافون من “رؤية أنفسهم”.. جرى النظر إلى بعضهم على أنهم مثل وحوش الخرافات.. عدوانيون وقبيحون بشكل واضح، وحتى إنهم انخرطوا في السياسة! ولكن سواء كانوا عنيفين أم لا، ناشطين أم لا، فهذا ما يتطلبه الأمر. “وإن “العمل” لم ينته بعد، كما نرى كل يوم.”
“مشاعر من حلم أو سر..”
ترى الفنانة الفرنسية “ميريام ميشيتا” (مواليد 1974) في الفنانة السويسرية “ميريت أوبنهايم” نوعا من الملاك الحارس؛ اكتشفتها ميشيتا في طفولتها حينما رأتها على الصفحة الأولى من إحدى الصحف، كما تقول: “كان ذلك عندما ماتت أوبنهايم.. رأيت فنجان الشاي الخاص الذي صنعته من الفراء ووجدت ذلك مجرد صورة مجنونة.وشاعرية للغاية”. منذ تلك اللحظة الكاشفة، كانت أوبنهايم ترافق أعمال ميشيتا دائما: “أحب أناقة المواد التي تستخدمها.. كأنها أناقة
الكارثة”.
هناك أيضا الجانب المزدوج لمنحوتاتها المصنوع من عدد قليل جدا من العناصر؛ مثل سنجاب بجوار إبريق من الجعة.. إنه أمر مضحك ومؤثر وحساس.. “لا يوجد هذا القدر من البساطة في الرسم السريالي؛ التي تؤثر فيّ بشكل أقل”.إن قدرة أوبنهايم على لصق الأشياء معا وتحريك القطع (من دون منطق واضح) تلهم ميشيتا كل يوم؛ التي تمضي قائلة: “إنه شِعرٌ في أجزاء وقطع؛ كل جزء يلتصق بجزء آخر.. مكان للحرية؛ يحررنا لابتكار المساحات والأشكال”.تربط ميشيتا المراحل المبكرة من رسوماتها بالكتابة الآلية: “هذه الرغبة السريالية ذاتها بإخراج كل شيء (من دواخلنا)، وعدم التحكم بالشكل أو المعنى؛ حتى لو كان ذلك يعني أنني لا أفهم ما كنت أصنعه”.. إنها معجبة بمرونة أوبنهايم: “كان على ميريت أوبنهايم أن تبحث عن مكانها، وقد وجدته.
لقد عرفت كيف تفصل نفسها عن الرجال الذين أحاطوا بها”.
لم تكن أوبنهايم مجرد نموذج لفنان ما ولا مجرد زوجة “ماكس إيرنست” (فنان ألماني سريالي. 18911976)..”لا؛ بل كانت شخصا قويا ولم تسمح بأن يتم استغلالها.ورغم نوبات الاكتئاب الرهيبة التي جعلتها تتخلى عن الفن لنحو 18 عاما؛ فقد عادت إليه.. أجد هذا مريحا، وكأنها تهمس لي: “لا تستسلمي”.. أليست السريالية هي فرصتنا الوحيدة للهروب من عالمنا الرهيب؟إنها مكان للتنفس أحب أن أعود إليه على دفعات؛ عندما أحتاج إلى الشعور بالحلاوة والشعر والحزن.عالم موازٍ يمكننا أن نفقد أنفسنا فيه عندما نشعر بأن العالم الحقيقي يسحقنا”.
يُخامر الفنانة الفرنسية الشابة “نيلا تشيرماك إيشتي” (مواليد 1996) الشعور نفسه؛ منذ أن اكتشَفَت أعمال الفنانة الإسبانية المكسيكية “ريميديوس فارو”.تقول إيشتي: “يعتقد الكثير من الناس أن هذه اللوحات خيالية تماما؛ ولكن عندما تعبر ((فنانة ما)) عن مشاعرها في حلم أو سر؛ أشعُرُ وكأنها تعيد إلينا شيئاً كان لنا في الماضي ولكننا نسيناه..”.وتمضي إيشتي قائلة: “تُشعرني شخصياتها شبه المجسّمة بالاطمئنان، كما أحب عمارتها وطاولاتها السحرية؛ مع أنابيب الاختبار والجرعات التي يجري تحضيرها؛ علاجا لشيء لا يعرفه أحد!”. هناك أيضا شخصية أخرى في عالم السحر الفني؛ هي “ليونور فيني”.استلهمت إيشتي منها.. “لحظاتها المُعلّقة في الزمن، وحيواناتها الخرافية الملونة بألوان الباستيل الغريبة اللاذعة، والتي تكاد تكون مُشعّة؛ ولا تعرف ماذا تفعل تلك الألوان هناك.. من هؤلاء النساء؛ تعلمتُ أن الجمال ليس القوة المُحرِّرة الوحيدة.”