عشتُ في السودان وعملتُ ودرستُ فيها، وتجولت في ولاياتها المختلفة من الخرطوم إلى جوبا، أثناء عملي في الأمم المتحدة، وكنت سعيدا طوال فترة وجودي هناك، والسبب هو المزايا النادرة التي يتحلى بها الشعب السوداني.فبالإضافة إلى أنه شعب ودود وكريم ومسالم وملتزم القانون والنظام، فإنه لا يرفض الآخر المختلف ثقافيا أو عرقيا، بل يتقبله دون قيود أو تصنُّع. الإنسانية هي المعيار الأول والأخير عند السوداني، ويتساوى في هذه المزية الإنسان العادي والمتعلم، والثري والفقير.
يشعر المرء في السودان وكأنه في المدينة الفاضلة التي حلم بها الفارابي، وأنا هنا أتحدث عن الأسس القِيَمية التي يقوم عليها المجتمع، وليس عن البنى الأساسية للدولة السودانية، فهذه متدنية بالمقاييس العصرية. لا أحد يسرقك أو يخدعك، أو يعاديك دونما سبب، والفقير يفضل البحث في براميل القمامة، بدلا من أن يسرق أو يسلب أو يخدع أحدا، أو يدخل إلى المنازل المشرعة الأبواب بحثا عن ضالته.
ليس غريبا أن ترى في السودان صداقاتٍ حميمةً بين مسيحيين متدينين ومسلمين سلفيين، وأتذكر أنني كنت أتسوق من محل قرب إذاعة الأمم المتحدة التي عملتُ فيها، وكنت أرى باستمرار رجلا مسلما ذا لحيةٍ طويلةٍ كثة، وثوبٍ قصير، يجلس إلى جانب صاحب المحل المسيحي، الذي كان يعلِّق صليبا عملاقا على صدره. كان منظرا جميلا، أشعرني بسعادة غامرة، وهو يقدم انطباعا مطَمْئنا عن البلد وأهله.
كان الأفارقة من البلدان المجاورة، ومن أديان مختلفة، يعيشون ويعملون في السودان دون قيود، حتى في ظل نظام البشير الإسلاموي، الذي لم يستطِع أن يغير طبيعة شعب السودان وثقافته، رغم أنه حاول أن يفرض قيودا على الحريات باسم الدين، لكنها لم تترسخ لأن ثقافة المجتمع المتسامح ترفضها، إذ بقي السودانيون، رغم الصعاب، شعبا مرحا وسعيدا وكريما ومسالما، ولم تتوقف نشاطاته الثقافية والترفيهية.
رأيت في السودان أقواما من كل أنحاء العالم، وبالأخص من الدول الأفريقية المجاورة، إذ كان كثيرون يأتون حتى دون تأشيرة دخول، فيعيشون ويعملون دون قيود. وكلما دخلت جامعة أفريقيا العالمية في الخرطوم، ورأيت الطلاب هناك بمختلف الأزياء والألوان، وقد جاءوا من مختلف أنحاء العالم، وبالأخص من بلدان أفريقيا، حضَرَتْ في مخيلتي صورةُ العالم القديم، وكيف كان الناس يتنقلون من بلد لآخر ويعيشون ويدرسون ويعملون ويتعلمون دون قيود.
والسودانيون شعب متنوع الأعراق، فليس كلهم من أصول أفريقية، بل كل الأعراق متمثلة في هذا البلد الجميل المعطاء الثري بموارده الطبيعية الهائلة وبأهله المسالمين. ولولا سعي نظام البشير لتطبيق قوانين الشريعة في البلاد، لما سعى أهل الجنوب للانفصال. وكان زعيم ثورة الجنوب، الراحل جون قرنق، يؤمن بوحدة السودان، ولكن على أسس التعددية والتسامح والتعايش بين الأعراق والأديان المختلفة، التي لا يستطيع نظام أيديولوجي متشدد أن يرعاها ويرسخها، لكنها تنمو وتتطور في ظل نظام علماني محايد يسمح للجميع بالعيش وفق نمط الحياة الذي يرتضونه، والعقيدة التي يؤمنون بها.
وعندما زار قرنق الخرطوم قبيل مقتله في حادثة سقوط طائرة هليكوبتر، امتلأت الساحات والشوارع بالسودانيين المسلمين والمسيحيين وأتباع الأديان الأخرى، المبتهجين بوصوله، الذين كانوا يؤمنون بعقيدته السياسية، وهي أن يكون السودان بلدا عصريا ديمقراطيا موحدا، يتعايش فيه أبناء الجنوب والشمال في ظل نظام سياسي تعددي يضمن للجميع حقوقهم على أسس المواطنة ومبادئ الدولة العصرية.
الأنظمة السياسية العسكرية التي حكمت السودان لم تنصف الشعب، بل كانت فاشلة وغير مخلصة. لم تستثمر موارده الطبيعية والبشرية لخدمته، فظل معظم السودانيين فقراء، مضطرين للعمل خارج الحدود، وكثيرون منهم عبروا البحر الأحمر للعمل في المملكة العربية السعودية التي استقبلت آلافا منهم، إذ كانوا مفضلين في الوظائف التي تتطلب الأمانة والإخلاص والتفاني في العمل. بينما كان بإمكان السودان أن يكون أغنى بلد في المنطقة، ولا داعي للإطناب في سرد ثرواته الطبيعية والبشرية لأنها معروفة.
كان فرض الشريعة الإسلامية على شعب السودان المتنوع، ذي الثقافات والأديان المتعددة، الذي بدأ في عهد الرئيس جعفر النميري، بداية الأزمة التي مازالت تعصف بالبلاد. وقد مكَّنت هذه السياسة الكارثية الجيش من الاستمرار في الحكم، عبر الاستعانة بالحركة الإسلامية بقيادة الشيخ حسن الترابي، لكنه سرعان ما انقلب على القيادة المدنية وانتهى الأمر بسيطرة العقيد عمر البشير على السلطة ليبقَ عالقا فيها 30 عاما، رغم المشاكل الكثيرة، المحلية والدولية، التي خلقها نظامه.
كان واضحا، نظريا وعمليا، بأن الحكم باسم الإسلام سوف يؤدي إلى انقسام السودانيين إلى مسيحيين ومسلمين، وعرب وأفارقة وعلمانيين وإسلاميين، ثم انقسام السودان إلى شمال وجنوب. وهذا بالضبط ما حصل، إذ تدخل المجتمع الدولي لحل مشكلة جنوب السودان، ومثل هذا التدخل يحصل عندما يعجز أي بلد عن حل مشاكله بنفسه، فانقسم السودان إلى دولتين كنتيجة مباشرة لحكم الإسلاميين، وهو قابل للانشطار مرة أخرى، إن لم يتمكن السودانيون، عاجلا، من التأسيس لنظام حكم سياسي عصري.
ولم ينتهِ الأمر عند هذا الحد، بل حصل الأسوأ وهو اضطرار الجيش للاستعانة بمليشيات قبلية لمحاربة الأهالي الرافضين للحكم الديني/القومي من القبائل غير العربية. وما زاد الأمر سوءا، هو تخبط النظام في الحكم، خصوصا العبث بحدود الولايات، وتقسيم إقليم دارفور إلى ثلاثة أقاليم، الأمر الذي زاد من سخط الأهالي من غير العرب، إذ اعتبروه هيمنة قومية عربية عليهم.
ومع تعاظم سطوة المليشيات التي منحها نظام البشير كل ما تحتاجه من سلطة وسلاح وأموال وشرعية قانونية، بل ومكَّنها من الاستيلاء على مناجم الذهب، تنامى طموح قادتها ليستولوا على الحكم كليا. تحولت الميليشيات إلى قوة ضاربة لحماية النظام السياسي، أو على الأقل هكذا ظن الرئيس البشير، ولكن عندما ثار الشعب عام 2019، انضم الجيش ومعه قوات “الدعم السريع” إلى الثورة، وأطاحا بالنظام القائم، وأقدما على امتصاص النقمة الشعبية باختيار حكومة مدنية برئاسة عبد الله حمدوك.
ومع إصرار الحكومة المدنية على تقليص دور الجيش في الاقتصاد والحياة العامة، ودمج الميليشيات بالجيش، انقلب الجيش ومعه “الدعم السريع” على المدنيين عام 2021 وتسلما السلطة مباشرة. ولكن، كما حصل في معظم الدول التي تسلم العسكر السلطة فيها، فقد تدهورت الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والخدمات وتراجعت الحريات العامة والخاصة، فالعسكر غير قادرين على إدارة الدولة، لأن تخصصهم الأساس هو حماية الدولة وليس إدارتها، لذلك اضطروا بعد عام إلى التوصل إلى “اتفاق إطاري” مع قوى مدنية، وكانت بنود الاتفاق تناغِم مطالب الشعب نظريا، إذ ضم الاتفاق معظم الأهداف التي ينشدها السودانيون، وهي دمج الدعم السريع بالجيش وتسليم السلطة إلى المدنيين والعودة إلى الحكم التداولي.
غير أن الأساس الذي بُنيت عليه قوات “الدعم السريع”، وهي القوة التي تشكلت ابتداءً من مليشيا الجنجويد، المتهمة دوليا بارتكاب جرائم التطهير العرقي في إقليم دارفور، هو أن تكون مستقلة ومنافسة للجيش، إضافة إلى الهدف السياسي الذي أنشئت من أجله، وهو حماية النظام السياسي. لم يكن مبدأ الدمج مقبولا لقادة “الدعم السريع”، لأنه سينهي مهمتها السياسية عمليا. قادة هذه القوة العسكرية سياسيون، أو لديهم أهداف سياسية، ويعتزمون استخدام القوة العسكرية لتعزيز أهدافهم السياسية، المرتبطة ارتباطا وثيقا بمصالح اقتصادية، أو على الأقل هذا ما يخشاه قادة الجيش الذين يحتكرون القوة العسكرية لأنفسهم.
وعلى الرغم من أن الدمج بالقوات المسلحة كان مدرجا في “الاتفاق الإطاري”، لكن الإدراج لم يكن جديا على ما يبدو، وقد وُضِع لأسباب سياسية، كي يكون مقبولا شعبيا، وكي تقبل به القوى المدنية التي وقَّعت على الاتفاق.أن تكون لأي قوة مسلحة أهدافٌ سياسية، هو أمر يهدد كيان الدولة والمجتمع، أما أن تكون هناك قوتان عسكريتان لهما أهداف سياسية متضاربة، وتتنافسان على السلطة السياسية والثروات الاقتصادية، فإن النتيجة واضحة لكل ذي عين، وهي الاصطدام المسلح، الذي لا ينتهي إلا بتغلب إحداهما على الأخرى، أو تقسيم البلد إلى مناطق نفوذ، أو إلى دول متعددة.
ما يحصل حاليا في السودان يمكن أن يحصل في العراق، إن عاجلا أو آجلا، وستكون النتيجة أسوأ بكثير مما يحصل في السودان حاليا، والسبب لأن هناك العديد من القوى العسكرية التي تتمتع بدعم دولة أخرى، هي إيران، وهذه القوى لا يمكن أن تُهزَم بسهولة، لأن الدولة الداعمة لها تمدها بمقومات البقاء، وهي السلاح والحماية والتدريب والشرعية الدينية، وهذا غير متوفر في السودان حاليا، لكنه قد يتوفر إن طال أمد النزاع المسلح الحالي.
“السلام” السائد حاليا في العراق بين الجيش والمليشيات، سببه أن الجيش لم يعد مؤسسة متماسكة، بل هناك تعدد في الولاءات السياسية لقادته، فتعيين القادة يجري وفق المحاصصة العرقيةالطائفيةالسياسية، ولأن القادة السياسيين هم قادة المليشيات أنفسهم، فإنهم أتوا بقادة موالين لهم أو متعاونين معهم، ما حوَّل الجيش إلى مؤسسة هجينة وضعيفة، بينما بقيت المليشيات متماسكة أيديولوجيا وعسكريا وتراتبيا.
وإذا ما حصل يوما أن الجيش أو قسما منه قد تحول فعلا إلى مؤسسة وطنية متماسكة، فإنه لا يمكن أن يتعايش مع قوات عسكرية لها قيادات مختلفة وتخدم أهداف ومصالح دولة أخرى، بمعنى أنها تمتثل لأوامر وفتاوى قادة دولة أخرى وتتصرف خارج إطار الدولة.
الوضع في لبنان واليمن مشابه لما في العراق، قوى مسلحة تعمل خارج إطار الدولة، وتخدم أهداف دولة أخرى. إن لم تحتكر قوى الدولة السلطة بكل أشكالها، فإن مستقبل الدولة آيل إلى الضعف والتفكك. إنه درس بليغ يجب أن يتعلمه أفردا الشعب والساعون إلى السلطة على حد سواء.
السعي نحو إقامة دولة عصرية هدف مشروع لأي شعب أو جهة سياسية، لكن الحفاظ على تماسك الدولة هو مسألة وجودية للوطن والشعب معا، وأن المغامرة في مشاريع غير محسوبة النتائج لتحقيق طموحات فردية أو حزبية هو عمل تدميري خطير ينافي الانتماء للدولة ويحرق الأخضر واليابس. إنْ تفككت الدولة وضعُفت، فإن جميع سكانِها، دون استثناء، سيعيشون ضعفاء وأذلاء وفقراء، هذا إن تمكنوا من البقاء في وطنهم ولم يهاجروا إلى دول أخرى، وستكون إعادة بنائها عسيرة، إن لم نقل متعذرة.