الخيال أكثر أهمية من المعرفة” بهذه الكلمات التي أطلقها البرت أنشتاين عالم الفيزياء المعروف بأبي “النسبيتين”، يمكننا أن نفسّر رؤيته الدالّة على أن الإنسان مهما امتلأت جعبته بالمعرفة والعلم والتطبيقات الواقعيَّة، لا يمكنه أن يستغني عن الخيال، ولا يمكن أن تغلب المعرفة هذا الإحساس الكبير الذي يمنحه التحليق بعيدًا عن ملامسة الأرض بإقدامنا .وأمام هذا الهيجان العلمي الذي حمل تعريف “الذكاء الاصطناعي”، بات البعض يتساءل عن مصير الفن الذي يعتمد أساسًا على خيالات صنّاعه، فتقنيات هذا الذكاء وإن بدت مكشوفة أمام أصحاب العقول قد يمكنها أن تكون قادرة على النيل نوعًا ما من خيالات الفنان وما تنتجه أحاسيسه وأحلامه، فالعالم أصبح مضطربًا مثل من فقد شغفه بالإبداع الحسّي، ليتحول إلى قطع من الحديد مرصوفة سواء على شكل إنسان آلي أو آلة صمّاء بليدة، أو أي تقنية علميّة رقميّة أخرى .ويعدّ الفن التشكيلي واحدًا من أهم تفرّعات الفنون الجميلة التي تعتمد الخيال كأبرز دعامة من دعامات بنائه، لأنّ هذا الفن لا يمكنه أن يختال زهوًا، تاركًا بصمته في خارطة التجريد والواقعيّة والانطباعيّة وباقي مدارس الفن من دون أن يعتمد الخيال مادة أساسيّة في كل مراحل تكوين اللوحة أو المنحوتة، بملامسة شاعريّة للفرشاة واللون والأزميل .
واذا سلّمنا جدلًا أن التكنولوجيا استطاعت وبنجاح أن تفرض سطوتها في الكثير من التفاصيل الحياتيّة التي تحيطنا، فمن البديهي أن نرى تأثيرها في عالم التشكيل الفني الواسع، لأنّ هذا الأخير هو جزءٌ لا يتجزأ من مجموع ما هو موجود .وإزاء هذا الاقتحام غير المحدود، بدأت موجات القلق تدق جرس الانذار في المشهد التشكيلي الذي نتحدث عنه الآن، خاصة وأن البعض من القاعات الفنية، فاجأت جمهورها باحتضان معارض مادتها الأساسية هي “منتجات الذكاء الاصطناعي” هذا، ودخول هذا الهجين الفني إلى حيز التنفيذ كواقع لا نقاش حوله .
وتقف قاعة كرستيز كواحدةٍ من هذه القاعات، التي احتفت بهذا “الذكاء” بديلًا عن الحضور الحقيقي للفنان التشكيلي .من جهة أخرى مغايرة في المضمون، نجد أن البعض من المعنيين والمتابعين والنقاد، يرون أنّ “مدرسة” الذكاء الاصطناعي، لا تختلف كثيرًا عن السرياليّة مثلًا أو التجريديّة، حين أعلنت عن حضورها للمرة الأولى في المشهد التشكيلي آنذاك!، إذ جوبهت بالرفض وتمت مقاطعة معارضها أحيانًا وانتقاد رساميها كونهم تمرّدوا على الواقعيّة والانطباعيّة وأحدثوا انقلابًا فنيًا عارمًا .
وفي ذات السياق، يخرج البعض عن المألوف، ويتفنن بالدفاعات عن هذا “الجرم” الذي سقط على كوكبنا فجأة، فهو يرى أن الذكاء الاصطناعي، وإن بدا أنه غير قادر على هزيمة اللمسات الفنيّة الإنسانيّة، وغير قادر على أن يكون بديلًا عن الإنسان “الفنان”، إلا أنّه قد يلعب دورًا في تطوير المنظومة الفنيّة، وذلك بقدرته على أن يكون أداة للفنانين لاستكشاف طرق أكثر ابداعًا وحداثة .
ومهما تحدثنا وأبحرنا في هذا المجال المهم والمثير للجدل، يبقى الإبداع البشري مميزًا لأنّه يعكس أفكارنا وثقافاتنا وحكاياتنا المأخوذة عن أحاسيس كبيرة هائلة تنتجها الروح الإنسانيّة بكل مشاعرها ورؤاها وأحلامها، ولا يمكن بأيِّ شكل من الأشكال ومهما بلغت ذروة تطوره، أن يحل محل قلب وروح الإنسان، تلك الروح التي تشعر بالألم والحزن فتجسّده باحترافيّة عالية، ولا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يستنسخ المشاعر من أيِّ فنان “بشري”، ولهذا السبب تبقى قيمة الفن الذي ينتجه الإنسان، راقية جدًا ومهما كانت باهظة الثمن. وحتى إن بدا للبعض، أنّه قد لا يكون الفن البشري مثاليًا في كثير من نتاجاته، إلا أنّه حقيقي، مشاعره حقيقيّة، وستظل دائمًا أكثر تميزًا من أي شيء قد يحاول “روبوت” تقليده .وتبقى هذه المناظرة تعني كل الأعمال الفنيّة الأخرى، سواء كان كتابًا أو لوحة فنية، أو أي منجز فني مبهر، وما بذله صاحبه من عمل جاد، لتحقيق تلك القطعة النهائيّة التي نستمتع بها، مجسدًا التجربة الإنسانيّة التي لا يستطيع الذكاء الاصطناعي فهمها وإن بذل صنّاعه أقصى ما يمكنهم من محاولات، ودائمًا سيكون هنالك أمل في أن يستمر البشر في صنع الفن، متحدين طغيان هذا الذكاء، منتصرين بشغفهم على بلادة الآلة .