أسهمت حركة الترجمة والتثاقف الثقافي منذ اوائل القرن الماضي في وفود عدد من الأجناس والأنواع الادبيَّة منها والفنيَّة الى البنية الثقافيَّة العربيَّة من بيئات ثقافيَّة ومجتمعيَّة أخرى، في وقت خلت فيه بنيتنا الثقافيَّة من هذه الأجناس والأنواع الوافدة، وبعد أن تمَّ اختبارها في البنية الاجتماعيَّة والثقافيَّة العربيَّة والوقوف على قدرتها على استيعاب المشكلات التي يعاني منها المجتمع العربي والتيقن من مقبولية الفرد العربي لهذه الأشكال الوافدة فقد تمكنت ان تندمج لتكون حركية المشهد الثقافي العربي. ومن هذه الاجناس والانواع الأدبية هي الرواية والقصة القصيرة والقصة القصيرة جدا والشعر الحر وقصيدة النثر وجامع النص والنص المفتوح، الا ان الفهم الخاص لهذه المصطلحات القارة في النظرية النقدية قد تعرضت الى الالتباس والاختلاف في الوصول الى المصطلح الذي ينسجم والضوابط والقواعد الإجناسية لهذه المصطلحات نتيجة الاختلاف في الفهم اثناء الترجمة، الأمر الذي احدث التباسا في استخدام هذه المصطلحات على المستوى التنظيري الذي يستخدم في العملية النقدية وكذلك على المستوى الابداعي، حتى صار التقاطع والاختلاف في العملية الكتابية ذاتها وصار المصطلح الواحد يتضمن مفاهيم مختلفة ومتعارضة مع بعضها البعض، وأشكل على الكتاب والمبدعين صحة ما يكتبون وفق القواعد التي وفدت مع تلك الاجناس والأنواع، وبغية ضبط حدود المصطلح كيما يكون الجميع على بينة واضحة في سلامة وصحة استخدام هذا المصطلح ومفهومه وحدود ضبطة فقد حاولنا في السطور المقبلة فك الاشتباك والالتباس الحاصل في المفاهيم والمصطلحات التي وفدت الى الشعرية العربية التي كانت مقتصرة على الشعر العمودي وقصيدة التفعيلة وبما توفر لدينا من مصادر منشأ هذه المصطلحات وانضباط اجراءاتها الاجناسية. سأحاول في السطور القليلة الآتية وباختصار فك اللبس الحاصل في استخدام مفهومين على المستوى البحثي والإجرائي وهما جامع النص والنص المفتوح، إذ يصر العديد من النقاد والمبدعين على استخدام مصطلح (النص المفتوح) في مكان مصطلح (جامع النص) ومن أجل ضبط المصطلح وما يعنيه، فإننا سنقدم التعريف السليم والصحيح لكل من المصطلحين كما انتجهما الجهد النقدي العالمي وترحيلهما الى البيئات الثقافية المختلفة. يعد مصطلحا (جامع النص) و(النص المفتوح) من انتاج البنية الفكرية لموجهات نقد ما بعد الحداثة وتحديدا استراتيجيات التقويض الدريدي، ومنذ ظهورهما في النصف الثاني من القرن العشرين فإنهما شغلا مساحات واسعة من العمل النقدي شرحا وافاضة وإضافة، ولا يزال الدرس النقدي العالمي بصدد تقديم مقترحات كثيرة وجادة على سبيل ضبطهما اصطلاحيا ليمتلكا وضعا قارا في النظرية النقدية المعاصرة ليتم استخدامهما بشكل سليم في تحليل النصوص الابداعية وفي كتابة النصوص من قبل المبدعين. و(جامع النص) مصطلح يشير الى النص العابر للأجناس، وقد وضعه الناقد الفرنسي جيرار جينيت في كتابه المهم (مدخل لجامع النص) ترجمة عبد الرحمن ايوب والصادر عن دار الشؤون الثقافية العامة / وقد حمل مقدمة للناقد جينيت خص بها هذه الطبعة العربية / 1986. ويشير جينيت بهذا الصدد في كتابه الآنف الذكر وفي ص92 ما يلي (وأخيرا أضع ضمن (التعالي النصي) علاقة التداخل التي تقرن النص بمختلف انماط الخطاب، ولنصطلح على المجموع، حسبما يحتمه الموقف، جامع النص، والجامع النصي، أو جامع النسج)، لقد توصل جينيت إلى هذا المصطلح بعد محاولته تفكيك الثلاثية التجنيسية التي وصلتنا منذ ارسطو وهي الغنائي/ الدرامي/ الملحمي، اثر ظهور منجزات ابداعية انتجتها حركية فكر ما بعد الحداثة منذ ستينيات القرن الماضي شهدت تداخلا بين الأجناس الأدبية المختلفة وتنافذ انماط نصية مختلفة ضمن النص الواحد، ولا شك في ان ظهور هذا النص الجامع انما هو استجابة للمتغير الاجتماعي الذي حصل في ستينيات القرن الماضي كإضرابات الطلبة في كل من فرنسا وامريكا وسائر الدول الاوربية احتجاجا على ثوابت فكر الحداثة وتقويض العقل الغربي البرجوازي القائم على الثنائيات المتضادة، اذن فنحن ازاء تشكل جديد للأجناس الادبية متمثلة بـ (جامع النص) الذي سأقترح له تسمية أخرى تبسيطية بأنه (نص تنافذي) اذ يشهد هذا النص تنافذا بين الأجناس الأدبية المختلفة وسائر النصوص التاريخية والسردية والفلسفية والاسطورية وسواها من السرديات الكبرى والصغرى بنسب متوازنة من دون هيمنة جنس على الأجناس الأخرى، وكما أشرت في واحدة من دراساتي بأن هذا الجنس الجديد انما هو نوع أو جنس يمثل مرحلة ما بعد الحداثة، وهذا ما يؤكد الفرضية القائلة بأن ظهور الأجناس مقترن بظهور تحولات في البنية الاجتماعية تستدعي اشكالا جديدة لاستيعاب المضامين الجديدة.ولعل انفتاح هذا النص الجامع او التنافذي على الاجناس الاخرى هو ما اوقع العديد من الباحثين والكتاب في وهم او خطأ عده (النص المفتوح) الذي تشير منظومته التعريفية وحسبما اورده الدكتور محمد عناني في كتابه المصطلحات الأدبية الحديثة ص 65 بأنّه (النص الذي ينفتح على كل احتمالات التفسير، أي انه النص الذي يقبل كل تأويل محتمل) وتسهم الآليات التي يستخدمها الكاتب في تمكين المتلقي للمساهمة في انتاج النص عبر خاصية التأويل، ومن أهم الآليات التي يتصف بها هذا النص هي علامات الترقيم التي تشير الى الفراغات والكلمات المنقوصة والنهايات المفتوحة والانتهاء ببداية النص ليكون النص دائريا وحقلا وساحة مشرعة لكل القراءات التأويلية المحتملة، ويطلق هذا المصطلح على كل الأجناس التي تستخدم الآليات التي اشرنا اليها، ولعل كتاب امبرتو ايكو (العمل المفتوح) 1962 بهذا الصدد قد فتح الابواب امام الجدل الدائر في المؤسسة النقدية منذ ذلك التاريخ، ويذهب فيه ايكو الى المعنى الذي اشرنا اليه وكذلك يذهب اليه أيضا بارت وبالمعنى نفسه.لذا صار واضحا بأن (جامع النص) هو شكل اجناسي جديد تتنافذ مختلف الاجناس والانماط لتشكله، بينما (النص المفتوح) هو كل نص مهما اختلف جنسه شعرا كان أم نثرا يمتلك قابلية تأويل القارئ، فهو خاصية نصية اجرائية ولا يعد جنسا جديدا. الشعر الحر، منذ ظهورها في البنية الثقافية العربية وافدة من منشئها الفرنسي اواخر خمسينيات القرن الماضي وقصيدة النثر كجنس جديد تعرض ويتعرض حتى الآن وعلى مستوى الإجراء والتنظير الى ارتباك والتباس في استقرار المصطلح وعدم وضوح المعايير البنائية، الأمر الذي وجد فيه (كتابها) انفسهم في منطقة مرتجة وشك في يقينية ما يكتبوه، ووصل الأمر بهم مطالبة النقد النأي عن المعايير التي توصلت اليها سوزان برنار في دراستها المهمة لقصيدة النثر الفرنسية من بودلير الى زمن انجازها لتلك الدراسة، والتصريح بأن تلك المعايير غريبة عن المجتمع العربي متناسين بأن هذا الجنس الذي يدعون بأنهم يكتبونه انما هو ليس منجزا عربيا وانه وافد وعليهم الأخذ بمعايير بنائيته للحفاظ على شروطه الاجناسية شأنه شأن الأجناس والانواع الأدبية والفنية التي وفدت من خارج بيئتنا العربية، ولا شك فإن معايير ابنيتها وشروطها قد رافقت وفودها، وما لتميز إلا في استلهام مشكلات الواقع المحلي كما حصل في اغلب المجتمعات العالمية التي وفدت اليها ايضا تلك الأجناس وتمكن الكتاب من الباسها ثوب المحلية، كما أن اغلب النقاد يكتفي بالتصريح بأن هذه النصوص لا تمت بصلة الى قصيدة النثر من دون الإشارة الى امكانية تجنيس ما يكتبوه ما دام لا يمت بصلة إلى قصيدة النثر، ونرى بأن معايير سوزان برنار لاتزال قائمة وتضع الحدود الواضحة بين هذه القصيدة وبقية الأنواع والاجناس الشعرية والنثرية الأخرى، إذن والحال هذه يحق لنا وبعد مضي ما يزيد على نصف قرن أن نضع النقاط على الحروف ونقصي الرهانات الضاغطة باتجاه أن يستجيب النقد لالتباس المفهوم عند كتاب قصيدة النثر في العراق وسواه من الدول العربية، ذلك ان للنقد موجهاته المنضبطة وفق ما يتضمنه كل جنس او نوع من معايير تمنحه هويته الاجناسية، وحسب هذه المعايير مع ما يتوفر من مناهج نقدية مناسبة يتم وفقها تحليل النصوص. وازاء هذا الالتباس فإننا نضع امام من يعتقد بأن ما يكتبه هو قصيدة نثر أن يسائل نصوصه:
1 هل يتضمن نصه تدفقا في الجمل المكونة لنصه النثري لتحقيق الوحدة العضوية والموضوعية للنص المتخذ شكل فقرة او كتلة نثرية؟
2 هل يكرس النص غايته في تحقيق شعرية النثر؟ إذ إن قصيدة النثر هي نثر غايته الشعر بتجاوز اللغة الاستهلاكية المألوفة.
وهناك معايير أخرى تشكل الحدود الفاصلة بينها وبين الاجناس الأخرى كالدوافع الفكرية التي ارتبطت بمفاهيم الحداثة الاوربية.
وفيما عدا ما ذهبنا اليه فإنّ ما يكتب من نصوص تعتمد التشطير الذي يتخذ شكل الكتابة العموديَّة حيث تهيمن الوظيفة الشعرية على مجريات النص الذي تكون شعرا غايته الشعر وبما انه منزوع الوزن والقافية فإنّه يدخل منطقة (الشعر الحر) أو (الشعر المطلق) الذي أرسى أسسه الشاعر الأمريكي والت وايتمان عبر ديوانه أوراق العشب في منتصف القرن التاسع عشر وتأثر به اليوت وازرا باوند، ومن الشعراء العرب فقد تأثر به جبران خليل جبران وأمين الريحاني الذي أصدر اول ديوان له بعنوان (هتاف الأودية) عام 1912 وهو مجموعة قصائد منزوعة الوزن والقافية، وفي الشعر الايراني يسمى الشعر الأبيض، ويكاد يكون الشعر الذي يكتب الآن في اغلب الدول من هذا النوع، لذا فإنَّ أغلب ما يكتبه الشعراء العراقيين هو شعر حر منزوع الوزن والقافية لغلبة الفضاء الشعري في النص واتباعه بنائية التشطير ولا صلة له بقصيدة النثر بنائيا ومضمونيا. أما قصيدة التفعيلة فكما هو معروف فإنّه قد اجترح من معطف الموازين التي دأب عليها الشعر العمودي ذو نظام الشطرين ليعتمد وحدة التفعيلة دون وحدة البيت الشعري، هذا مختصر للالتباس الحاصل في استخدام هذه المفاهيم التي هيمنت بشكل واضح في مهرجانات قصيدة النثر العربية والعراقية، وكذلك في الدراسات والبحوث النقدية وفي جلسات المنتديات الأدبية، ولعل من المناسب الاشارة ونحن نشير إلى هذه الالتباسات إلى أنَّ الهدف من ذلك هو ضبط المصطلح واستخدامه بشكل صحيح على المستوى التنظيري والإجرائي كيما تتوضح الصورة أمام المبدعين والنقاد لتقديم نصوص خالية من أي التباس مفاهيمي.