بغداد/ شبكة أخبار العراق أثار تصريح رئيس حكومة إقليم كردستان مسرور بارزاني، بشأن تردّي الخدمات في محافظات الوسط والجنوب وتساؤله العلني حول مصير “أموال الجنوب”، نقاشًا واسعًا داخل الأوساط السياسية والاقتصادية، إذ بدا حديثه هذه المرة موجّهًا إلى ما هو أبعد من العلاقة المالية بين أربيل وبغداد. فالرجل، في لحظة مشحونة بالاستحقاقات الانتخابية، استخدم خطابًا يربط الكفاءة الإدارية بالهوية السياسية، والإنجاز بالتنظيم، في مشهد يُعيد طرح السؤال المؤجل: من يدير الدولة العراقية فعليًا، المركز أم الأقاليم؟،في خطابه الأخير، قال بارزاني إن “العديد من أهالي الوسط والجنوب يأتون إليّ ويقولون إننا نعاني من أزمة الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء وشوارع ومستشفيات ومدارس وخدمات أخرى”، متسائلًا: “أين تذهب أموال الجنوب؟ ولماذا لا تُصرف على المحافظات العراقية؟ وإن كانت هذه الأموال لا تأتي إلى الإقليم أو المحافظات الأخرى، فأين تذهب؟”،هذا التساؤل الظاهري في شكله والاتهامي في مضمونه لم يكن موجّهًا إلى جهة محددة بقدر ما عكس أزمة هيكلية في الدولة العراقية: مركز يحتكر الثروة لكنه يفشل في توزيعها، ومحافظات تعيش فوق مواردها دون أن تجني ثمارها.تحليل مضمون خطاب بارزاني يكشف أنه لم يكن يهاجم الجنوب بقدر ما كان يصف مأزق المركزية العراقية التي حولت العاصمة إلى “عقدة مالية” تمسك بخيوط الإنفاق وتتحكم في مصائر المحافظات. وهو خطاب يتقاطع مع المبدأ الذي يدافع عنه الحزب الديمقراطي الكردستاني منذ سنوات: أن اللامركزية ليست ترفًا إداريًا، بل آلية لإنقاذ الدولة من الفساد المؤسسي المتراكم.
يرى عضو الحزب الديمقراطي الكردستاني شيرزاد حسين بحديث، أن “المقارنة بين الإقليم وبقية المحافظات تفضح الخلل في إدارة الموارد”، مشيرًا إلى أن “الإقليم، ورغم قطع موازنته منذ عام 2014، استطاع أن يعمّر مدنه ويفتتح مشاريع عملاقة في مختلف القطاعات، بينما ما زالت مدن الوسط والجنوب غارقة في الخراب”.ويضيف حسين أن “الفساد هناك بلغ مستويات قياسية، تُترجمها نسب الفقر والبطالة المرتفعة، بينما تبقى معدلات الفقر في محافظات الإقليم الأدنى في العراق، رغم العراقيل المالية وقطع الرواتب”.هذا التوصيف لا يخلو من دلالات سياسية واقتصادية. فالإقليم يقدم نفسه كنموذج للحكم الرشيد، بينما تتراجع صورة المركز أمام تآكل قدرته على تنفيذ الخطط الخدمية. ومع أن البنية المؤسسية للإقليم استفادت من استقرار نسبي، إلا أن الإشارة المستمرة إلى نجاح “الإدارة المحلية الكردية” مقابل “فوضى المركز” تحوّلت إلى ركيزة في خطاب الحزب الديمقراطي الكردستاني لتثبيت شرعيته في الحكم وتعزيز سردية “النزاهة مقابل الهدر”.يأتي حديث بارزاني في توقيت حساس تقترب فيه البلاد من انتخابات تشرين المقبلة، حيث يتصاعد الجدل حول سوء الخدمات وانهيار البنى التحتية في المحافظات الجنوبية. هذا التوقيت لم يكن عفويًا، فالحزب الديمقراطي الكردستاني يسعى لإعادة رسم صورته داخل المشهد العراقي العام كقوة إصلاحية، لا ككيان مناطقي.
من زاوية تحليلية، يمكن قراءة تصريح بارزاني كجزء من محاولة مدروسة لإعادة توجيه النقاش العام نحو سؤال الكفاءة الإدارية بدلًا من سؤال الانتماء، وكمحاولة لطرح الإقليم كـ“نموذج قابل للتعميم” على مستوى الدولة الاتحادية.ويرى مختصون في الإدارة والسياسات العامة أن الخطاب الكردي الجديد يميل إلى تقديم التجربة الكردستانية كمرجع لنجاح التخطيط المحلي، بعد أن أثبتت حكومات المركز إخفاقها في إدارة الأموال رغم وفرتها. ويضيف بعضهم أن بارزاني في خطابه “وجّه نقدًا ضمنيًا لمنظومة الحكم ككل”، محاولًا استثمار الغضب الشعبي في الجنوب لتوسيع دائرة القبول بمفهوم “الإدارة المستقلة” كبديل عملي عن المركزية الفاشلة.الحديث عن “أموال الجنوب” لا ينفصل عن محاولة الإقليم الدفاع عن حصته من الموازنة، لكنه أيضًا يتجاوزها نحو بناء سردية جديدة: أن النزاهة ليست حكرًا على المركز، وأن الشفافية ممكنة في بيئة سياسية محكومة بالمحاصصة.