كتب : محمد شعبان
12:48 ص
29/10/2025
في وقت خيم الليل على شارع اللبيني بمنطقة فيصل غرب الجيزة، عمَّ السكون الشارع مع تراجع درجات الحرارة، لكن وراء جدران إحدى الشقق، كانت الحقيقة تغلي في صمت.
جريمة مأساوية راح ضحيتها ثلاثة أطفال أبرياء، لم يعرفوا يومًا معنى الخطيئة. جريمة بدأت بمكالمة هاتفية غريبة، وانتهت بمأساة لا يمكن للعقل أن يستوعبها.
“حماده” رجل بسيط يعمل فرد أمن، هو آخر من كان يتخيل أن بيته الصغير سيصبح عنوانًا لجريمة تهز الرأي العام. في صوته حزن عميق، وفي كلماته وجع رجل فقد كل شيء دفعة واحدة.
داخل غرفة التحقيق أجاب الثلاثيني على أسئلة المحقق لاسيما بدايات علاقته بزيزي “أم العيال”. تنهد الرجل طويلا قبل أن يسترجع الذكريات تحديدا قبل 14 عاما حين تقدم لخطبة “زيزي” بناء على ترشيح من الأهل لا بعد قصة حب مفعمة بالمشاعر والأحاسيس ليرزقان بـ3 أطفال “سيف، جنى، مصطفى” لطالما حلم بتربيتهما لكن الحلم تحول إلى كابوس.
“زيزي” ربة منزل مطلع الثلاثينات، كانت بروحين، الأولى داخل عش الزوجية “أم وزوجة” والثانية خادمة تعمل في تنظيف المنازل الموثوقة لمساعدة بعلها في المصروفات. كانت تعود منهكة، لكن مع الوقت لم تعد كما كانت.
بدأت تتبدل نظراتها، يختفي صوتها، ويغيب دفء البيت. قبل 7 شهور وحسب أقوال الزوج تبدلت أحوالها، اختارت الهجر سلاحا ضد من وهبها حياته وماله والأغلى عرضه وشرفه لينتهي مسلسل خلافاتهما بطلبها الطلاق.
يسكت الرجل قليلا قبل أن يعود مستكملا حديثه داخل الغرفة التي طالما ضجت بالتفاصيل والخبايا لكثير من القصص. مع كل يوم يمر، كان الزوج يشعر بأن هناك شيئًا غامضًا يتسلل إلى حياته، شيئًا لا يُرى، لكنه يلتهم روحه ببطء.
الرقم المجهول.. البداية الحقيقية
في إحدى الليالي، تلقى اتصالًا غريبًا من رجل أخبره بالطامة الكبرى “مراتك بتخونك” فما كان منه إلا نهره ودافع عن نصفه الثاني ليتحداه صاحب الصوت والرقم الغريب “تحب أوصفها لك” ليجن جنون الزوج لاسيما أن “زيزي” منتقبة” ليتسرب الشك إلى قلبه لكنه حاول أن يتمالك نفسه.
ذهب إلى قسم الشرطة وحرر محضرًا بالواقعة ضد الرقم المجهول إلا أن لم يكن يعلم أن هذه المكالمة ستكون الشرارة التي ستكشف كل الأسرار وتفتح أبواب الجحيم.
خيوط تتشابك وضغوط تهدد بالانفجار
لم تمر أسابيع حتى وقعت جريمة مرعبة أضحت حديث الشارع المصري لا الجيزاوي فقط، زيزي وأطفالها الثلاثة قتلوا غدرا على يد صاحب محل أدوية بيطرية يدعى “أحمد” تخلص منهم واحدا تلو الآخر بين كوم عصير دس فيه السم وطفل صغير ألقاه حيا في ترعة المنصورية.
أمام ضباط مباحث الهرم، اعترف المتهم أن الضحية أخبرته بهجرها زوجها والضغط عليه لتطليقها ومن ثم الزواج منه خاصة مع وعده لها بأنه سيكون لها وأولادها السند لكنها ليست إلا فرحة البدايات.
نهاية سبتمبر 2025 قررت “زيزي” ترك عش الزوجية دون رجعة. استقبلها أحمد، وأسكنها في شقة مستأجرة بمنطقة الهرم لكن حلم الزواج الذي كانت تتمسك به زيزي، لم يكن موجودًا في خططه، كلما طالبت بالزواج منها بعد إتمام إجراءات طلاقها من “أبو العيال”، كان يتهرب ومع تزايد ضغوطها، اتخذ قرارا واحدا.. القتل.
السم في العصير
في ذلك اليوم المشؤوم، حضّر أحمد كوبًا من العصير ووضع بداخله مادة سامة حصل عليها من محل الأدوية البيطرية المملوك له. قدم العصير إلى زيزي داخل الشقة المستأجرة وبعد دقائق من تناوله، بدأت تشعر بإعياء شديد، فأسرع بها إلى مستشفى قصر العيني، مدعيًا أنها زوجته، وقدم بيانات مزوّرة باسم مستعار.
وبعد ساعات قليلة، لفظت أنفاسها الأخيرة. تركها أحمد هناك وغادر بهدوء، وكأن شيئًا لم يكن.
“خفت يفضحوني”
بعد ثلاثة أيام فقط، لم يجد المتهم راحة. القلق لم يفارقه، والذعر من أن يتحدث الأطفال عمّا رأوه لم يغادر تفكيره فقد اعتاد الصغار مناداته بـ”بابا”، وكان يخشى أن يفضحوه فخطط لجريمة ثانية، أكثر قسوة من الأولى.
اصطحب الأطفال الثلاثة في نزهة، وأحضر لهم عصائر ووضع في الأكواب نفس المادة السامة التي قتلت والدتهم. شرب اثنان منهما، بينما رفض الثالث مصطفى البالغ من العمر ست سنوات أن يتناول العصير.
حينها قرر أحمد أن يُنهي حياته بطريقة أبشع، فأمسك بالطفل الصغير وألقاه في ترعة المنصورية بمنطقة الهرم وتم انتشال جثمانه لاحقا بمعرفة الأهالي.
بعدها، عاد “أحمد” بالطفلين الآخرين، اللذين كانا في حالة إعياء شديد، واستعان بعامل من محله وسائق “توك توك” لنقلهما وعند مدخل عمارة بشارع اللبيني في فيصل، ترك الطفلين وهرب كما رصدته كاميرات المراقبة لحظة بلحظة وخطوة بخطوة.
بداية كشف الحقيقة
مع ساعات الصباح الأولى، كان أطفال الحي في طريقهم إلى مدارسهم، حين لمحوا جسدين صغيرين ممددين داخل مدخل العمارة.عادوا مسرعين إلى منازلهم ليخبروا ذويهم، فتوافدت قوات الشرطة، لتبدأ رحلة البحث عن الحقيقة.
التحريات قادت رجال المباحث إلى خيوط الجريمة بسرعة مذهلة. التحقيقات الأولية كشفت علاقة بين الأم المتوفاة وصاحب محل أدوية بيطرية في الهرم، وبالقبض عليه، انهار وبدأ يعترف بتفاصيل جريمته.
قال بهدوءٍ صادم: “خفت العيال يفضحوني.. كانوا بينادوا عليا يا بابا”، اعتراف واحد أنهى كل شك، وكشف حجم القسوة التي دفعت رجلًا لقتل أم وأطفالها الثلاثة بدم بارد.
ماضي أليم
بالعودة إلى غرفة التحقيقات، كشف والد الأطفال الثلاثة عن بعدا اجتماعيا ونفسيا مثيرًا، “زيزي” عانت من تاريخ أسري سيء، توفى والدها وهي في سن سغيرة ووالدتها أعادت التجربة مرتين وهي نفس عدد مرات ترك “زيزي” للمنزل ولكن في كل مرة كبار عائلتها يتدخلون لاحتواء الموقف إلا أن هذه المرة “التالتة تابتة” خرجت وعادت جثة هامدة.
كانت تلك الجملة كافية لتختصر حكاية عمر من الألم. بيت لم يعرف الاستقرار، تربية مضطربة، وزواج قائم على المجاملة لا الحب، كلها مكونات لانفجار كان لا بد أن يقع.
حديث الوجع
أمام رجال التحقيق، جلس الأب المكلوم والزوج المصدوم وهو يحمل بين يديه صور أولاده. كان وجهه شاحبًا، وعيناه غارقتين في الحزن تغالبه دموعه “دول كانوا كل حياتي.. ماكانش ليا غيرهم. كنت بشتغل ليل ونهار علشانهم. محدش يستاهل اللي حصل ده.”
كل كلمة خرجت منه كانت كسكين تقطع في قلبه قبل أن تصل إلى آذان من حوله. لم يكن يصرخ، لم يكن ينتقم، فقط يحكي كأنه يريد أن يطرد من صدره آخر أنفاس الوجع.
في النهاية، لم تكن جريمة فيصل مجرد حادثة قتل بل مأساة إنسانية مكتملة الأركان بدأت باتصال من رقم مجهول، وانتهت بجثامين أم وثلاثة أطفال وأب ينهار تحت ثقل الحقيقة. فأحيانًا لا تأتي الكارثة دفعة واحدة، بل تبدأ بكلمة “مراتك بتخونك”.
