جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

وسط دوامة انتخابات مجلس النواب الحالية، يتكشف لنا المشهد المصري كما هو بلا رتوش، بلا أقنعة، بلا أي تجميل للواقع. المشهد ليس صراعًا بين مرشحين فقط، وليس مجرد توزيع للأصوات، بل هو كشف دقيق لمجتمع متواطئ مع الفساد، مجتمع شارك فيه بصمته، وبقبوله، وبحياته اليومية. كل تصرف صغير أو كبير، كل تجاوز على القانون، كل تهاون أو صمت عن خطأ، هو جزء من شبكة واسعة أنتجت ما نراه اليوم، شراء الأصوات بلا خجل، توزيع المال السياسي، ووعود انتخابية كاذبة، محسوبيات مفتوحة، ولجان تصويت تشهد انتهاكات واضحة دون أي رد فعل جماعي.

الفساد الذي نراه في الانتخابات ليس حادثًا عرضيًا، بل هو استمرار لعقلية عمرها عقود، متجذرة في المجتمع المصري منذ الصغر. الطفل الذي يتعلم أن الغش طريق للنجاح، الطالب الذي يختصر الطريق بمساعدة “واسطة”، الموظف الذي يتجاوز القانون خوفًا على مصالحه أو لحاجة مالية، المواطن الذي يغض الطرف عن الظلم طالما لم يمسه مباشرة… كل هؤلاء يشكلون الشبكة الحقيقية للفساد. هؤلاء الذين نراهم اليوم في الانتخابات، يكررون أنماطًا تعلموها منذ زمن، وأنماطًا جعلت القوانين بلا تأثير، وجعلت النزاهة صعبة، وجعلت الطريق المختصر جذابًا وسهلًا، حتى ولو كان يدمر الدولة والمجتمع.

في الواقع، المواطن الذي يبيع صوته لا يختلف عن المواطن الذي يلتزم الصمت أمام تجاوزات المرشحين، فكل منهم يساهم في استمرار المنظومة. الناخب الذي يقبل المال السياسي، والناخب الذي يضحك على وعود كاذبة، والمرشح الذي يستغل المال والنفوذ للوصول إلى المقعد… كلهم شركاء في لعبة معقدة وواسعة. والكارثة الحقيقية ليست في هؤلاء فقط، بل في المجتمع الذي يشرعن لهم الفعل، المجتمع الذي لا يرفض، المجتمع الذي يعتبر الصمت مشاركة، والمجتمع الذي يبرر الفساد باعتباره “الواقع الطبيعي”.

الواقع المصري الحالي في الانتخابات هو صورة حيّة لهذا الفساد الجماعي. المال السياسي أصبح معيارًا للنجاح، والصوت البشري أصبح سلعة تُباع وتُشترى بلا أي خجل، والمرشحين الذين يعتمدون على الأموال والنفوذ أكثر من الكفاءة والرؤية يُنظر إليهم على أنهم الأكثر جدارة. في المقابل، المرشح النزيه، الذي يسعى لتحقيق أهداف حقيقية بعيدا عن المحسوبيات والرشوة، يُنظر إليه على أنه ضعيف، غير واقعي، أو غريب عن الواقع، وكأنه يسير ضد التيار. هذا الانحراف ليس حادثًا مؤقتًا، بل هو انعكاس طويل لعقلية مجتمع كامل.

ما يزيد الأمر سوءًا أن الفساد لم يعد يراه الناس خطأً فاضحًا، بل أصبح ممارسة عادية، عادة يومية، مهارة حياتية، أحيانًا يصفونها بـ”الشطارة”، وأحيانًا يبررونها باعتبارها ضرورية للبقاء. المواطن الذي يبيع صوته، الموظف الذي يتجاوز القانون، المتسابقون على المقاعد بلا أي معيار سوى المال والنفوذ… كلهم جزء من منظومة أخلاقية مشوهة قبل أن تكون سياسية. هذه المنظومة أعطت الفساد حياة دائمة، وأعطت الانتهاك شرعية اجتماعية.

الفساد في مصر ليس مشكلة المرشح وحده، وليس مشكلة السلطة وحدها، وليس مجرد حادثة فردية، بل هو نتاج تراكمات تاريخية، وعقلية مجتمعية راسخة، وثقافة عملت لسنوات على جعل الانتهاك طريقًا طبيعيًا. الطفل يتعلم الغش، الشاب يتعلم الالتفاف، الموظف يتعلم التلاعب بالقانون، المواطن يتعلم السكوت عن الظلم، حتى تصبح كل هذه الممارسات قاعدة ثابتة. هذه الثقافة هي التي تصنع انتخابات مشوهة، هذه الثقافة هي التي تنتج مؤسسات ضعيفة، هذه الثقافة هي التي تجعل المال السياسي أقوى من القانون، والمصلحة الفردية أهم من الصالح العام.

ومع ذلك، كثيرون منّا يبررون أفعالهم اليومية باعتبارات تافهة: “هو كلهم بيعملوا كده”، “أنا واحد مش هيفرق”، “الطرق صعبة والدنيا معقدة”، “مش مهم ألتزم بالقانون طالما الآخرين لا يلتزمون”. هذه التبريرات الصغيرة هي التي حفظت الفساد، هي التي أعطته حياة دائمة، هي التي جعلت الانتخابات انعكاسًا مباشرًا لسلوك المجتمع، لا مجرد اختبار للمؤسسات.

كل صندوق انتخاب هو مرآة، وكل ورقة تصويت تعكس صورة المجتمع كما هو: مجتمع يوافق على الخطأ، مجتمع يغض الطرف عن الانتهاك، مجتمع يختار الطريق الأسهل بدل الطريق الصحيح، مجتمع يضحي بالمصلحة العامة من أجل مكاسب فردية مؤقتة. وما لم نغير هذا الواقع الداخلي، ستظل الانتخابات مجرد استعراض، وسيستمر إنتاج الفساد جيلًا بعد جيل.

التغيير يبدأ بالاعتراف: الاعتراف بأننا جميعًا شركاء في المشكلة، وأن كل تجاوز، كل مجاملة، كل صمت، كل تواطؤ، جزء من شبكة الفساد. الاعتراف ليس ذلًا، بل هو بداية الشفاء. المجتمع الذي يعترف بفساده قادر على الإصلاح، أما المجتمع الذي ينكر، فسيظل يدور في حلقة مفرغة: دائرة تبرير الخطأ وتأجيل المواجهة واستمرار الانحراف.

في الانتخابات الحالية، يكون التغيير ممكنًا حين يقرر المواطن أنه لن يبيع صوته، وأنه لن يقبل بالرشوة، وأنه لن يغض النظر عن الفساد مهما كانت الضغوط. حينها فقط يصبح الصندوق أداة إرادة، وتصبح الانتخابات تجربة نزيهة، ويصبح الوطن قادرًا على استعادة توازنه. كل ناخب يرفض المحسوبية، كل ناخب يرفض المال السياسي، كل ناخب يرفض الانتهاك، هو حجر في أساس بناء مجتمع جديد.

المأساة الكبرى ليست في بعض المرشحين الفاسدين، بل في مجتمع بارك لهم وجودهم، مجتمع جعل الفساد عادة، مجتمع غرس في أفراده عقلية قبول الانتهاك، مجتمع ترك النزيه وحيدًا في مواجهة الموروث الثقافي للفساد. التغيير لا يأتي من الخارج، ولا من السلطة وحدها، بل يبدأ من الداخل: من الفرد الذي يقرر أن يكون مختلفًا، من المواطن الذي يرفض المشاركة في اللعبة، من المجتمع الذي يبدأ بمساءلة نفسه قبل مساءلة الآخرين.

إن الانتخابات الحالية، بكل ما تحمله من صخب وفوضى، هي جرس إنذار. جرس يقول بصوت عالٍ: إن لم نغير من أنفسنا، لن يتغير شيء. إن لم نواجه حقيقة أننا جزء من المشكلة، سنظل نعيد إنتاجها بلا نهاية. الأمل موجود دائمًا، في لحظة صدق الفرد مع نفسه، لحظة رفضه للمال السياسي، لحظة رفضه للمحاباة، لحظة استعداده لاختيار الصواب رغم صعوبة الطريق.

كلنا فاسدون بالضرورة، نعم، لكننا قادرون، إن قررنا، على كسر هذه الضرورة، على بناء وطن نزيه، على ممارسة الديمقراطية الحقيقية، على استعادة الصندوق كأداة إرادة لا كسلعة تُباع وتشترى. الفكرة ليست في الانتخابات وحدها، بل في تكوين مجتمع يرفض الفساد في صغائره قبل كباره، في حياته اليومية قبل لحظة التصويت، في وعيه قبل ممارسته. وهكذا تبدأ رحلة الإصلاح الحقيقي، رحلة مواجهة الذات، رحلة مواجهة الفساد في كل مكان، في كل زمان، في كل قلب مصري، لتولد مصر جديدة تستحق تاريخها وحضارتها وشعبها، وتستعيد القدرة على أن يكون الشعب شريكًا في قراره، لا تابعًا لأهواء المال أو النفوذ، ولا مسلوب الإرادة تحت غطاء التوافق الضمني على الخطأ.

والحقيقة المؤلمة التي يجب مواجهتها بلا تجميل هي أن الفساد ليس مجرد اختيارات فردية، بل هو إرث اجتماعي، هو تربة خصبة يزرعها كل واحد منا كل يوم، في البيت، في المدرسة، في الشارع، في مكان العمل، في اللجان الانتخابية، وفي كل لحظة نغض فيها الطرف عن الظلم أو نبحث عن الطريق الأسهل على حساب القانون والمجتمع. التغيير يبدأ عندما يقرر الفرد أن يرفض هذه الوراثة، أن يكسر العادة، أن يرفض الانتهاك حتى لو كان الجميع يطبّقها، أن يقول لا حتى لو خسر مصالح مؤقتة، أن يتمسك بالقيم حتى لو بدا أنه وحيد في مواجهة الفساد المنتشر.

حينها فقط يمكن أن نبدأ في بناء مجتمع جديد، مجتمع يرى النزاهة حقًا وليس رفاهية، يرى القانون معيارًا وليس عبئًا، يرى المواطن شريكًا وليس سلعة، ويعيد للانتخابات معناها الحقيقي: أداة إرادة، صوتًا يقرر المستقبل، مسؤولية تبني الدولة، وصرخة الشعب ضد كل فساد متوارث أو مكتسب.

شاركها.