07:47 م


الخميس 12 يونيو 2025

مارينا ميلاد:

عند فجر يوم 1 يونيو، استيقظ “محمد” ليتصفح هاتفه مترقبًا ما ستعلنه المؤسسة الجديدة المنوط بها توزيع المساعدات عليهم وتسمى بـ”مؤسسة غزة الإنسانية”، بعد حصار مطبق دام لأكثر من ثلاثة أشهر وجعله وأبناءه الأربعة يقضون ليالِ طويلة دون أي طعام.

عثر على منشورها عند الرابعة صباحًا: “سيكون للمؤسسة موقع توزيع واحد في تل السلطان جنوب غزة، ندعو الأهالي للوصول للموقع بدءًا من الساعة 05:00 صباحاً.. الممر الآمن سيكون عبر شارع الرشيد. وسيتواجد جيش الدفاع الإسرائيلي في المنطقة لتأمين الممر!.. يُمنع استخدام الممر قبل هذه الساعة”.

انطلق “محمد” من مخيم دير البلح باتجاه هذا الموقع، ملتزما بما ذكروه، وعلى الأقل أمامه ساعتين للوصول بعربة “كارو” إن وجد مكانًا له.

سلك الطريق الذي سرعان ما ازدحم بمئات الناس، متعشمًا أن تنجح المحاولة ويعود بصندوق طعام واحد لأسرته المكونة من 6 أشخاص، وهي الكمية المحددة من المؤسسة لكل عائلة.

لكنه لم يأتِ بالصندوق ولم يعد إليهم من الأساس. قُتل “محمد” مع ثلاثين شخصًا وأصيب أكثر من 176 آخرين بنيران القوات الإسرائيلية بالقرب من مركز التوزيع المذكور في رفح.

ولم تكن تلك الحادثة الوحيدة التي جرت بالقرب من مواقع مؤسسة غزة الإنسانية منذ بدء عملها بالقطاع في أواخر مايو الماضي.

بعد أن تحرك “محمد” قاصدًا شارع الرشيد، انقطع تواصله بالإنترنت، وفي هذا الوقت نشرت المؤسسة عبر صفحتها أن “موقع تل السلطان مغلق الآن” عند الساعة الخامسة وعشر دقائق صباحًا، أي بعد الموعد المحدد من جانبها للتحرك بعشر دقائق.

ربما لم يصل لـ”محمد” ومن معه، وربما وصل إلى البعض وواصلوا أملا في فتح الموقع مرة أخرى من جانب “الشركة الأمريكية”، كما يسميها أغلب السكان. فبلغ بالنهاية مشارف محافظة رفح. وقد ازداد العدد والصخب حوله واضطر للمشي مسافات طويلة حين بات الطريق لا يتحرك.

عبر حاجزا، ثم دوت أصوات الطلقات النارية، ركض “محمد” ومن حوله في كل اتجاه. يروي سامح حمودة (33 عاما)، والذي كان في المكان وقتها، لفرانس برس: “أطلقت طائرات مسيّرة النار على الناس المنتظرين للمساعدات، كذلك أطلقت دبابات نيرانا كثيفة وقتل أشخاص أمامي”. وكان بين هؤلاء “محمد”.

لم تعلق مؤسسة غزة الإنسانية على الأمر، إنما أعلنت في اليوم التالي أنها وزعت نحو 20 ألف طرد غذائي، بما يعادل 1,159,200 وجبة غذائية، ليكون إجمالي ما وزعته منذ الأيام الأخيرة من شهر مايو ما يزيد عن 5 ملايين و800 ألف وجبة، حسب ما تذكره.

وواصلت نشر تعليماتها التي يجري تنسيقها مع القوات الإسرائيلية. ولم تختلف تلك التعليمات في يومي 2 و3 يونيو، فحددت المسار نفسه باعتباره “آمنًا” والساعة نفسها، إلا أن ثلاثين شخصًا قتلوا خلال اليومين في المنطقة ذاتها، عند الفجر، وقرب مركز التوزيع، وفق ما أكدته اللجنة الدولية للصليب الأحمر، والدفاع المدني في قطاع غزة.

وقال الصليب الأحمر، الذي استقبل مستشفاه الميداني، أكثر من مائة مصاب، إن معظمهم مصابين بالرصاص.

تكرر الأمر يومي 9 و11 يونيو، بعد أن فتحت ثلاث مراكز توزيع: الأول بوادي غزة، والثاني بالقرية السويدية في منطقة تل السلطان والثالث بالحي السعودي في رفح. فبينما تعلن توزيعها ما يعادل 1.6 مليون وجبة غذائية يوم 9 يونيو، قتل عشرة أشخاص وأصيب أكثر من 30 خلال محاولتهم الوصول إلى مركزي توزيع المساعدات، كما ذكر الدفاع المدني في قطاع غزة، أضيف لهم 31 آخرين، أمس الأربعاء، بوسط القطاع.

تلك الوقائع دفعت فيليب لازاريني (المفوض العام للأونروا) أن يصف عملية توزيع المساعدات في غزة بأنها أصبحت “مصيدة للموت”، مطالبا إسرائيل بأن ترفع الحصار وتسمح بدخول المساعدات وتوزيعها بأمان ودون عوائق تحت إشراف الأمم المتحدة.

إذ ترفض الأمم المتحدة وكثير من المنظمات الإغاثية العمل مع “مؤسسة غزة الإنسانية” بسبب مخاوف بشأن طريقة عملها وحيادها. وقد استقال جيك وود (مديرها التنفيذي) بمجرد بدء عملها، مبررًا ذلك بـ”عدم إمكانية تنفيذ خطة توزيع المساعدات الموضوعة مع الالتزام الصارم بمبادئ الإنسانية والحياد والنزاهة والاستقلالية”.

تعرف على المؤسسة وأعضاؤها في تقريرنا السابق (الخطة الأمريكية لتوزيع المساعدات.. ما قصة مؤسسة غزة الإنسانية؟ ومن أعضائها؟)

كما يرى مفوض الأونروا إن تلك الخطة الإسرائيلية الأمريكية، التي وضعت مركز توزيع في أقصى جنوب رفح، تعد “نظاما مُهينا يجبر آلاف الأشخاص الجوعى على السير عشرات الكيلومترات إلى منطقة شبه مدمرة”.

وحتى من نجا وعاد من تلك الرحلة الخطرة، لم يحصل على شيء، فقالت إحدى السيدات وبدا عليها علامات التعب واليأس: “أتضور جوعا. لم أتمكن من أخذ أي صندوق طعام من نقطة التوزيع في كل الأيام. عدت بدون أي شيء. كل شيء سُرق”، فيما يكمل الحديث رجل يجاورها يدعى محمد أبو رزق ويحمل بقايا طعام سقطت من الناس على الأرض: “هذه مساعدات الذل والإهانة.. الكميات القليلة نفدت وهروح للعيال مكسور الخاطر”.

في حين، لم يتحرك أحمد الصفدي الذي يسكن مدينة غزة باتجاه المساعدات مثلهم، فهو لم يأمن لها من البداية، فيقول: “كيف بدنا نروح لرفح وإحنا محاصرين في غـ𓂆ـزة؟ على مين نركب؟ ومين يضمن الطريق؟ ولو وصلنا، مين يضمن إنه ما حدا يعتقلنا؟ ولا نرجع بسلام؟ إذا بدهم يأكلونا بهالطريقة. ما بدنا ياها!”.

وفي وقت تنفي إسرائيل بعض وقائع الاستهداف وتراها “روايات كاذبة”، وتشير في أحيان أخرى إلى “إطلاق النار بعد تحديد هوية عدد من المشتبه بهم قرب مركز لتوزيع المساعدات. وأنها على علم بسقوط ضحايا”، تتهم مؤسسة غزة الإنسانية حركة حماس بأنها “تتسبب في تعطيل توزيع الطرود الغذائية بعد أن أصدرت تهديدات ضدها، والتلاعب بعمليات التوزيع، وتقديم أجندتها الخاصة على الاحتياجات الأساسية لأهل غزة”، إلى جانب اتهامها اليوم بشنّ هجوم وصفته بـ”الشنيع والمتعمّد” على حافلة كانت تقلّ أفراداً من المؤسسة بطريقها إلى مركز لتوصيل المساعدات، ما أسفر عن سقوط خمسة قتلى وعدد من الجرحى.

اقرأ أيضا:

%250 زيادة في “تصنيف الخطر”.. هكذا يموت سكان غزة جوعًا

شاركها.