جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
لم تعد الحقيقة تُرى، بل تُصنع. لم تعد الكلمة تُكتب لتبني، بل لتشعل. ومن بين الأضواء التي تبهِر الأبصار خرجت فتنة هادئة، تتزين بالبريق وتخفي في أعماقها ظلمة لا تطفأ. كاميرا صغيرة بحجم الكف صارت قادرة على إشعال نار في مدينة بأكملها، ومقطع لا يتجاوز ثوانٍ يمكن أن يزلزل ثقة الناس في بعضهم البعض.
لم يعد الخطر في الهاتف، بل في الضمير الذي يغيب لحظة التصوير، في العين التي ترى الإنسان مادة للنشر، وفي القلب الذي نسي أن الستر عبادة. تلك اللقطات العابرة التي تنشر كل يوم، لا تقتل الأفراد وحدهم، بل تهدم بنيان كامل من القيم صنع بعرق أجيال.
فحين يُصوَّر أحدهم في لحظة ضعف، أو في بيت مغلق، ثم تُلقى صورته في فضاء مليء بالشماتة، لا يدرك ناشرها أنه ألقى حجرًا في مياه راكدة قد تغرقه هو أولًا. هذه ليست عبثًا إلكترونيًا؛ إنها شرارة حرب أهلية صامتة، تغذيها الغيرة، وتؤججها الكراهية الطبقية.
حين يرى الفقير أن الغني يسرف في ترفه ويباهي بأمواله عبر الشاشات، وحين يرى الغني أن الفقير يثور عليه بكلمات غاضبة تبث على الهواء، يتحول الاختلاف إلى احتقان، والاحتقان إلى صدام. وتبدأ المعركة ليس في الشوارع، بل في القلوب.
كل مشهد ينشر دون وعي هو رصاصة في صدر الوحدة الوطنية. كل فضيحة تذاع دون رحمة هي شظية في جدار الثقة. هكذا تبدأ الحروب الأهلية؛ لا دبابة ولا رصاصة، بل كلمة وصورة تلهب مشاعر الناس وتزرع بينهم العداء.
لقد تغيّر معنى “العيب”. صار التستر جريمة، والفضيحة بطولة، كأن الشرف لم يعد في حفظ السر، بل في كشفه على العلن. هذه الثقافة المريضة لا تهدد الأفراد فحسب، بل تمزق نسيج المجتمع قطعة قطعة، حتى يصبح الوطن مرآة مكسورة يرى كل طرف فيها نفسه فقط.
ومصر — التي كانت يومًا منارة للفكر والكرامة — لا تستحق أن تختزل في مقطع تافه يملأ الشاشات. لقد بنى المصريون عبر آلاف السنين حضارتهم على قيمة الستر والحياء، وكانوا يرون أن العيب يُستر لا يُعرض. اليوم، في لحظة طيش رقمية، تنتهك الحرمات وتُشهر الأسرار، ويساق الناس إلى ساحة فضيحة بلا قاضٍ ولا قانون.
وهنا تبرز الحاجة إلى تدخل صارم من القضاء المصري، ليضع حدًّا لهذه الفوضى الأخلاقية التي تهدد الأمن الاجتماعي. لا يمكن أن يترك مصير الناس لأهواء المتابعين، ولا أن تُدار العدالة من خلف الشاشات. يجب أن يُجرم نشر أو تداول أي مقطع أو صورة تمس خصوصية الأفراد دون إذن أو حكم قضائي.
القانون هو السيف الذي يقطع يد الفوضى، وهو وحده القادر على ردع من يظن أن النشر بطولة. العدالة ليست في عدد المشاهدات، بل في حكم يصدر بعد تحقيق وبيّنة ودليل.
ولذلك، يجب أن تُخصص منصة رسمية أو رقم طوارئ يُرسل إليه المواطن ما يراه من تجاوز أو فساد ليحال مباشرة إلى الجهات القضائية، لا إلى جمهور التواصل الاجتماعي. فالقضاء يملك العدل، أما الشاشات فلا تملك إلا اللهب.
إن ما يجري اليوم أخطر مما يبدو. فحين تتكاثر اللقطات التي تثير السخرية، وتنتشر المقاطع التي تهين الفقراء أو تشيطَن الأغنياء، فإننا نغذي الانقسام الطبقي في صمت. ومع الوقت، تتراكم الغصص في القلوب، وتتحول السخرية إلى كراهية، والكراهية إلى رغبة دفينة في الانتقام. ومن رحم تلك المشاعر، تولد الحروب الأهلية التي لا تبقي ولا تذر.
احذروا، فالتاريخ يعيد نفسه بأدوات جديدة. كانت المدافع تشعل الحروب، واليوم تشعلها الهواتف. كانت الدماء تسيل من فوهات البنادق، واليوم تسيل من أعين أُهينت أمام الملايين.
إن إنقاذ الوطن لا يكون بالصمت، بل بالوعي. أن نعيد تعليم الناس أن الكرامة ليست مادة للنقاش، وأن الستر فريضة، وأن الحرية لا تُمارس على حساب الآخرين. يجب أن تعود الأخلاق إلى مكانها الأول في بيوت الناس ومدارسهم وشوارعهم، وأن تصبح مسؤولية جماعية لا وعظًا مؤقتًا.
إن مواجهة هذا الخطر ليست ترفًا، بل واجب وطني. فحين تنهار القيم، لا يبقى في البلد سوى رماد من الضغائن. وحين تغيب العدالة، يتولى الشارع القصاص، فتتحول الشاشة إلى ساحة حرب، والبيت إلى جبهة جديدة من جبهات الانقسام.
احموا مصر من فتنة الضوء قبل أن تطفئ ما تبقّى من نورها.
اضبطوا الكاميرات قبل أن تضبطنا الفوضى.
واجعلوا من القضاء الكلمة الأخيرة، قبل أن يتكلم الغضب.
فالحرب إن اشتعلت لن تكون بين جيوش، بل بين طبقات من أبناء الوطن الواحد.
وحينها، لن يجد أحد مكانًا يختبئ فيه من ضوء بدأ كفتنة… وانتهى كحريق.