“غرائب خلف القضبان”.. كيف قتل الأخ شقيقه من أجل الحب؟
فى حياتنا غرائب مسلية ممتعة ومواقف سلبية، ومع تفاعل الناس تحدث الجرائم بطبيعة الحال، ويترتب على الجرائم قضايا تنظرها أروقة النيابات والمحاكم من بعدها، وبين تلك القضايا نجد قضايا تتسم بالغرابة والدهشة،
فصول هذه القضية وأحداثها كانت أشبه بالناى الحزين الذى يعزف على أشلاء الموتى، بطلها فلاح مصرى يقطن إحدى قرى صعيد مصر، أنجب ولدين كانا قرة عينيه.. عاش على ما تعطيه أرضه من رزق وخير، ولكن طموحاته كانت أكبر من واقعه، أراد أن يقلد أبناء قريته الذين باعوا أرضهم ونزحوا إلى العاصمة ووجدوا فى التجارة شطارة ودخلوا دنيا الثراء من اوسع الأبواب.. وبدأت الهواجس تطارده.. لماذا لا يصبح مثلهم؟.. “هما أحسن منى فى إيه.. ليه مبقاش أحسن منهم”، لم يصمد كثيراً أمام أفكاره وقرر أن يبيع أرضه التى كانت بالنسبة له مثل الماء والهواء.
سافر الفلاح هو وأبناؤه إلى القاهرة أملاً فى أن يفتح الله عليه باب رزق جديد يعوضه ما فات.. كانت المرة الأولى التى يحضر فيها إلى القاهرة المدينة التى لا تنام، والحيرة التى تستبد بفكره هل كان مخطئاً أم مصيباً عندما باع أرضه وترك قريته ونزح إلى عالم المجهول.. فقد كان عالم القاهرة باضوائها وسحرها وجمالها بمثابة المجهول بالنسبة له.
أحس فى أول يوم نزح فيه إلى القاهرة أنه سقط فى بحر لا شاطىء له، تتصارع فيه الأمواج، فهل سيتحقق حلمه ويصل إلى شاطىء الأمان أمام هذه الأموالج العاتية؟، كان إصرار الرجل بلا حدود وعزمه وجلده لا يتوقفان اشترى على الفور منزلاً يجاوره مخبز، بدأ العمل فيه بجد منذ اليوم الأول، كان ساعده الأيمن ابنه الأكبر الذى كان يعمل فى الفرن بلا توقف، يصل الليل بالنهار عيناه لا تغيبعن العمال حتى يزيد الإنتاج ويحقق حلم أبيه ويرفع رأسه وسط أهل قريته، فكان الله معه فالله دائماً مع الكادحين المخلصين فى عملهم، زاد الإنتاج واتسعت رقعة التوزيع عاماً بعد عام.
أما الأبن الأصغر فقد أصر الأب على مواصلة تعليمه حتى يحصل على “الشهادة العالية” كما كانا يسميانها، فقد كانت تلك أمنياتهما أن برياه فى مركز مرموق وقد شغل وظيفة بتفاخرون بها ويتباهون بها أمام أهل قريتهم.. ويؤكدون لهم أنهم كانوا على حق عندما باع الأب أرضه ونزح إلى القاهرة ليعيش هو وأولاده فى عالم خصب جديد مهيأ لاستقبال أحلامهم بل دافع لتحقيقها.
وأدرك الأب أن الأيام تسرق ابنه الأكبر.. وأن قطار العمر بمضى به وهو لا بفكر إلا فى المخبز ولا ينصرف ذهنه إلا فى العمل وجمع المال ليكون حصناً لهم وأمناً وأماناً من غدر الأيام.. فصمم على ألا يتركه على هذا الحال، فلابد أن يتمم نصف دينه واختار له فتاة تسكن فى الحى الذى يقيمون فيه.
كانت حسناء ممشوقة القوام شعرها غجرى.. عيناها كعيون المها.. ضحكتها تنفذ إلى القلب وتحتل جزء منه إن لم تحتله كله فلا تتركه معافى سليماً.
عاش الأبن الأكبر مع زوجته فى منزل الأسرة يعوض الليالى الحالكة التى كان بقضيها سابحاً فى عرقه امام نيران الفرن، إنه الآن أمام نوع جديد من النيران لا تقل لهيبها عن تلك النار التى كانت تلفح وجهه أمام الفرن.، فكانت زوجته كالقطة السيامى سحرت الجميع بأسلوبها اللبق وبهرتهم بجمالها الفتان.. واحتلت رؤوسهم بقدها الممشوق، غطت المنزل بالبهجة لم يعهدوها من قبل، فبدلت سكون المنزل لبهجة وسعادة، فأصبحت ملكة متوجة على عرش أفئدة الجميع.
لم يستطع الأبن الأصغر أن يقاوم سحرها وخفة دمها ودلالها بعد أن لطشت قلبه البكر، وسرقت عقله المتعطش للحب، بدأت أحواله تتبدل، بدأ يهتم بمظهره بملبسه، يقتنى الروائح النفاذة علها تنفذ إلى قلبها بعد أن أطارت النوم من عينيه، وزرعت جذور حبها فى أعماق قلبه التى كانت تنمو بسرعة متزايدة يوماً بعد يوم، فاقتنى أغانى الحب والغرام التى تحكى سهر الليالى فى جفون المحبوب التى فارقت النوم، واستعصت عليه فكان يتعمد تشغيل الشرائط التى تحكى حلاوة الحب وجنته، اقتنى ما استطاع قراءته من حكايات الحب والغرام والرومانسية.
بدأ أسلوب جديد بتغيير لهجته الصعيدية لي تحدث معزوجة أخيه برقة ونعومة تعكس نبضات قلبه الذى ملأه حبها.. كان يطيل النظر إليها فتغمره سعادة لا حدود لها إذا ابتسمت خيل إليه أنها تبتسم له وحده وأنه ملك الدنيا وما فيها.. معها كان يحس أن السعادة فتحت له أبوابها على مصراعيها، ليدخل إلى جنة حبها، فلم يبح بحبها لأحد سوى نفسه الحائرة الهائمة.
وفى ذات يوم طلبت منه زوجة أخيه أن يقابلها خارج المنزل بعيداً عن أعين شقيقه ووالده، فتلك اللحظة عمته الفرحة واعتقد أن الطير قد وقع وأن سهام الحب قد نفذت إلى قلبها فأدمته.
التقى بها بعيداً عن أعين العزال فى مكان شاعرى على ضفاف النيل، قابلته بابتسامة عذبة، ورمقته بنظرة ساحرة، أحس لحظتها أن ظنونه وأحلامه أصبحت حقيقية، وتحجرت الكلمات بين شفتيه حتى قطعت سكوت اللقاء وهى تضغط على يده قائلة :”أنا حبيت”.. لم يتركها تكمل الحديث عندما تشجع وهو يقول ..”أنا عارف كل حاجة”.. ازداد رنين ضحكتها وهى تقول فى غرابة :”والله ما أنت عارف حاجة..طيب قولى إنت عارف إيه؟”، فأحب أن يسمع منها حديث الحب، ذلك الحديث الذى سهر الليالى الطويلة يسمعه فى خياله الشارد.
فعاودة هى الحديث بابتسامة عريضة:” أنا جيت أقولك إنى عاوزاك تتجوز أختى هى بتحبك وأنت مش حتلاقى أحسن منها”..تسمرت عيناه وجمد الدم فى عروقه وازداد خفقانأ وكسا وجهه حمرة، كانت مفاجأة قاتلة غير متوقعة.. كان حديثها كالصاعقة التى حلت برأسه وشلت تفكيره، فسألته ” مالك فى إيه .. أن مكسوف ولاإيه؟”، أكيد مكسوف وده واضح ، وشك شكله اتغير، أقدر أقول مبرووك، فلم يستطع أن بينطق إلا بكلمات هو نفسه لا يعرف معناها ” أبداً أبداً”، فتركته وانصرفت حتى لا يراهما أحد منفردين.
قرر أن يصرف نظر عن هذا الحب المحرم، لكن الشيطان لم يدعه أبداً، ولعبت برأسه الهواجس وبدأت تتسرب إلى أوصاله فكره من جديد، أعاده الشيطان إلى عادات أهل الريف عموماً وتقاليد الصعيد خصوصاً.. إن الزوج إذا ما توفى فعلى الأخ أن يتزوج من أرملة شقيقه، خصوصاً أن زوجة أخيه قد أنجبت طفلين سيكون هوالأولى بتربيتهما، ولم يشعر بنفسه وهو يصيح من أعماقه صيحة استرعت والده وهو يصرخ ” لا .. لا .. مش ممكن”.
سمع نداء الشيطان ولباه.. قتل أخيه هو المفتاح السحرى الذى سيفتح له أبواب السعادة.. هو الذى سيدخله إلى جنة قلبها.. بل سيظهر أمام الجميع مظهر الشاب الشهم الذى لم ينس فضل أخيه عليه وعلى الأسرة.. فتزوجها للم شمل الأسرة ووفاء ورداً لجميل أخيه.
قاده الشيطان إلى المخبز الذى يعمل فيه أخوه، وانتظره ليلاً حتى انتهى من عمله فى مكان نظلم داخل إحدى حجرات الفرن بعد انصراف العمال، وانقض عليه بساطور وظل ينهال عليه به حتى تيقن من وفاته.. ولم يتحرك قلبه الذى تحجر كالصخر وهو يسمع صرخات شقيقه ويستعطفه وينظر إليه فى استغراب وحسرة.. نظرة الوداع وهو يتعجب ولا يصدق ما يرى.. وهو يردد كلماته الأخيرة..” مش معقول.. مش معقول.. أنت”، حتى دماؤه التى نزفت أنهاراً لم تشفع لدى نفسه المريضة ولا عينيه التى أصابهما العمى.
انصرف الأخ الأصغر ومع الشيطان، تاركاً شقيقه جثة هامدة وهو لا يعى أنه قد ترك الدليل المادى على فعلته.. كم قميصه الذى مازال فى يد أخيه قابضاً عليه ملوثاً بدماء أخيه، وعاد إلى المنزل وكأن شيئاً لم يحدث، وقام بتفيير ملابسه وأعاد إليه إبليس الأمل بعد أن تخلص من شقيقه، فالطريق الأن خالياً مع زوجة أخيه.
اكتشف الأب والعمال فى المخبز الجريمة صباح اليوم التالى، وكاد يصاب بالجنون من القاتل؟ وما الدافع؟، وبكى الأبن الأصغر على مصرع أخيه، كانت دموع التماسيح تعتيماً على فعلته الشنعاء.. فمازال إبليس يلاحقه ويخطط له ويرسم معالم الطريق.
نشطت المباحث فى جمع التحريات وأطلقت عيونها فى كل الأماكن التى تحيط بالحادث، فى الفرن ، الشارع، وعثر رجال الشرطة فور انتقالهم إلى مسرح الجريمة على القتيل ممسكاً بكم القميص بين أنامله ملوثاً بالدماء، عرضت هذا الكم على عمال الفرن الذين أكدوا أنه كم القميص الذى كان يرتديه شقيقه ليلة الحادث، وتمت مواجهته بهذا الدليل وعلة وجوده فى قبضة أخيه، فلم يستطع أن يقدم تبريراً لذلك ولم يجد أمامه وقد حاصرته الأدلة، سوى أن يعترف بجريمته، وروى تفاصيل تحاله مع الشيطان، وصفقة إبليس وكيف أن نار الغيرة من شقيقه حرقت قلبه ونهشت فكره وأماتت ضميره.. وأشعلت النيران بداخله.
وقضت المحكمة بإعدام المتهم شنقاً لا تهامه بقتل شقيقه عمداً.
ويقول المستشار بهاء أبو شقة: “كدت أرفض تلك القضية نظراً لبشاعتها، إلا أن دموع الأب حالت دون ذلك، وبالفعل تم نقض الحكم، وتم المرافعة بناء على استعمال الرحمة، واستمعت المحكمة للأب الذى أكد أنه يخاف على أطفال ابنه الأكبر المتوفى من سينفق عليهم حال وفاته، كما أنه لن يعيش فابنه الأول توفى والثانى محكموم عليه بالإعدام.. استعملت المحكمة الرأقة مع المتهم ورفعت الجلسة للحكم..
وقال رئيس المحكمةا للمتهم وقبل النطق بالحكم “أن ماتستاهلش أى رحمة.. إن جريمتك لا تطهرها مياه المحيطات.. إذا كنا استعملنا الرأفة معاك عشان أبوك وولاد أخوك البنتين”.. ونطق بالحكم ..” حكمت المحكمة حضورياً بمعاقبة المتهم بالأشغال الشاقة خمس سنوات”.
أما زوجة أخيه فقد تركت طفلتيها وتزوجت من ابن الجيران وهاجرا بعيدًا، ثم طلقها لشكه فى سلوكها واتجهت لطريق الرذيلة وقبض عليها ونالت عقابها بالقانون.