“غرائب القضايا”.. ضحى من أجله ومات على يده
قضايا غريبة وقعت وأثارت الجدل تحول فيها القاتل إلى برئ، والجاني إلى مجني عليه، ألغاز كشفتها التحقيقات، وأزال عنها الستار دفوع المحامين في ساحات القضاء، اليوم السابع يقدم على مدار 30 حلقة خلال شهر رمضان المبارك، أبرز هذه القضايا ووقائعها المُثيرة.
يروى هذه الحلقة المستشار بهاء الدين أبو شقة فى كتابه “أغرب القضايا”..
ليلة لا أنساها عندما حضرت إلى مكتبى فتاة فى مقتبل العمر.. كان الحزن والكأبة يكسون وجهها ويعتصران عينيها التى أحمرت من كثرة البكاء.. كانت الكأبة واليأس يستبدان بقسمات وجهها، فضاعت مع كل ما سلف مسحة الجمال التى تبدو لأول وهلة عندما حلت غرفة المكتب.
طلبت منها أن تركن إلى الهدوء والسكينة حتى أستطيع أن أتفهم مشكلتها.. حاولت جاهدة أن تتماسك لكن الانفعال كان بادياً فى عينيها التى أحمرت من كثرة البكاء.
سألتها عن مشكلتها التى قدمت من أجلها.. ازداد بكاؤها، انفجرت الدموع من عينيها وانهمرت وكأنها المطر، وقالت وهى تنتحب: “مش معقول.. أنا مش مصدقة.. أنا كأنى عايشه فى كابوس مفزع.. والله ده ظلم.. ده حرام.. وسقطت مغشياً عليها”.
بعد إجراء الإسعافات الأولية وبعد أن فاقت أصرت على الحديث:” خطيبى اتحكم عليه بالإعدام.. حيتشنق وأنا متأكدة أنه برىء، تصور إنسان برىء يعدم من غير ذنب لم يرتكب جريمة”.
سألتها وقد أحسست من بريق عينيها ونظرات صوتها إصراراها على براءته، كيف تأكدت من براءته خصوصاً أن المحكمة قد حكمت بعد أن استعرضت الأدلة وأوجه الدفاع، وانتهت بإجماع الأراء على إدانته بالإعدام، خاصة أن حكم الإعدام له طبيعة خاصة وضمانات كبرى تفوق الضمانات فى قضايا الجنايات العادية.
فأجابت الفتاة: “إحساسى يؤكد لى أنه برئ.. نظرات عينيه لى أقنعتنى بذلك، وكلامه بعد النطق بالحكم.. طول عمرى ما هنساه.. منظر يستحيل هيفارق عينيه وهو بيقول لى :” أنا ميهمنيش الدنيا كلها.. كل اللى يهمنى إنت، باحلف لك بحبنا الطاهر إن أنا برئ.. إنا ما قلتلتش عمى.. كلى اللى يهمنى أنت.. صورتى قدام عينيك لازم تفضل حلوة زى ما هى.. الدنيا كلها ماتهمنيش.. قوليلى إنك مصدقانى، كلامك ده هو اللى حيهون عليها حبل المشنقة وحفارق الدنيا وأنا راض مادام أنتى راضية ومقتنعة ببراءتى”.. لم تشعر بنفسها والدموع تملاء خديها وتبلل ملابسها.. قناعتها بصدق حديثه بلا حدود.
كان عليا ان اقرأ أوراق القضية جيداً.. كانت التهمة حسبما رصد فى تكييفها جريمة قتل عمد مع سبق الإصرار والترصد، كان القتيل عم المتهم الذى رباه.. فى حكم والده.. مما أثار الاشمئزاز من فعلته ودفع أهليته إلى التنصل والتبرؤ منه، بل والتحامل عليه والوقوف ضده وانتظار اليوم الذى يطهرون ثوب الأسرة الأبيض من دنسه.. يرونه معلقاً فى حبل المشنقة إرواءً لغليلهم وجزاءً وفاقاً لدم ذلك الرجل العظيم الذى لم يتوان يوماً فى إسعاده.
كانت القصة من بدايتها لشقيقين لا ثالث لهما..”أشرف” وشقيقه “سمير” الذى يكبره بحوالى ست سنوات عندما أصيب والدهما بمرض خطير أقعده عن العمل، أصبح لا يستطيع حراكاً.. فقد الأمل فى الشفاء، وأدرك الرجل أن أيامه- فى الحياة- معدودة، فلم ينس وهو يحتضر ولديه الصغيرين فأوصى أخاه ” محمود” بهما وهو فى النزاع الأخير..أوصاه برعاية ولديه، وأن يعاملهما كما لو كانا من صلبه خاصةً وأن أمهما كانت أيضاً تعانى “كوكتيل” من الأمراض المستعصية.
ومات الرجل وترك أسرة لا تملك من حطام الدنيا شيئاً.. زوجة مريضة فى أمس الحاجة إلى العلاج والأدوية المستمرة.. وولدين أكبرهما فى العاشرة من عمره.. وكان شقيقه “محمود” من الطيبة والأصل عند حسن ظنه.. عمل بوصيته بل وأكثر، واعتبر نفسه أباً فعلياً لهما.. وكرس حياته من أجلهما وبدأ فى تعليمهما وأغلق على مشاعره بـ”الضبة والمفتاح”، وتزوج من أرملة شقيقه رغم علمه بمرضها ورغم ما كانت تعانيه من مراراة من هذا الزواج، وإحساس بالتقصير فى حقه وأنها لا تستطيع إسعاده كزوج شأن كل الزوجات، إلا أنها كتمت أحزانها فى داخلها، كان الرجل يحس بأحاسيسها ومشاعرها ويواسسها ويهون عليها.
كان يسهر بجوارها الليالى الطويلة ليقدم لها الدواء، كان صالحاً ورعاً تقياً، يرعى الله فى كل تصرفاته ويتقيه فى كل أعماله، لدرجة أنه طلب من ابنى شقيقه أن ينادياه ب”بابا محمود”.. وظل يواصل كفاحه معهما ويقف إلى جوارهما ولا يبخل عليهما بأى شىء.
مرت الأيام وكبر الشقيقان وتخرجا من الجامعة، وماتت أمهما، وهى تدعوا له وتقدر شهامته وتعترف بمرؤءته وأنه لولا وقوفه إلى جوارهما هى وابنيها لدهمتهم عجلة الحياة.. وكتب عليهم الضياع. بعد وفاة الأم حزن الرجل كثيراً عليها، وقرر أن يحبس نفسه داخل “بوابة” حديدية وأيقن أنه جرب حظه فى الحياة، وأن السعادة نسبية يختلف مفهومها من شخص لاخر، وأن سعادته الحقيقية التى بات يراها تملاء عليه حياته هى ابنا شقيقه “اشرف” و”سمير”، فكان يرى أنه أب لهما بالفعل، وكانت كلمة “بابا” أشبه بالموسيقى التى تهتز لها أوتار قلبه.
ولكن السعادة لا تدوم، ففى الوقت الذى كان يسير به قارب الأيام فى نهر الطمأنينة والحب ظهرت “صخرة” عاتية اعترضت طريق القارب وقطعت عليه نشوة فرحته.. كانت تلك المرأة التى ظهرت فى حياة الأسرة فجأة فبدلت حالها رأساُ على عقب، تقابل معها مصادفة والشعر الأبيض يكسو رأيه.. كانت أشبه بالجليد الذى لا يذوب وبصمات الزمن التى لا ترحل..تركت أثارها على وجهه فملاأته بالتجاعيد.. هكذا كان حال الرجل عندما التقى بها.. كان قلبه خاوياً من الحنان، خالياً من الحب.. متعطشاً ينتظر أول كأس ترويه..أما هى فكانت أرملة مات زوجها فى حادث ولم ينجب منها أولاداً.
كانت ممشوقة القوام، حلوة الطلعة، بياض بشرتها المختلط بحمرة الوجه يزيدها فتنة وبهاء.. وقد كسا رأسها الشعر الأصفر.. كان أشبه بخيوط الذهب التى تهفهف على خديها.. والثوب الأسود – رغم قتامته- يزيدها حسناً وبهاء.. فنظر إليها ولم يستطع أن يقاوم النظرة الأولى.. ظل يختلس النظرات بلا وعى فقد نفذت نظراتها إلى قلبه البكر المتعطش إلى من يطفىء ظمأه.
استبد به الخيال وسبح به فى فضاء عريض وانهارت التساؤلات والتخيلات والأفكار على رأسه.. قارن بين نفسه وبينها.. بين الصبا والشيخوخة.. وتساءل والفكر يحطم رأسه .. هل من الممكن أن يجتمعا فى سلة واحدة؟
وبينما كان الرجل شارداً سابحاً فى أفكاره ونور الصباح بدأ بطل على الدنيا دون أن يدرى، عندما دخل عليه ابن شقيقه “سمير” يناديه أكثر من مرة “مالك يا بابا محمود.. سرحان فى إيه؟”.
أحس الفتى أن عمه وقد كست الحمرة عينيه وذبلت جفونه من السهر.. أنه غير طبيعى وأن هناك ما يؤرقه فازداد فى سؤاله: فيه إيه يا بابا؟، إلا أن إجابته لم تكن مواكبة لحاله عندما أجاب “أبدا مفيش حاجة”.. فقطع حديثه ” لا فيه حاجة.. وحاجة مهمة شاغلة بالك بتفكر فيها.. انت علمتنا الصراحة.. قول فيه إيه يا بابا ممكن أساعدك؟.
تحدث الرجل وقد انفرجت أساريره على استحياء، لو قلت لك عاوز أتجوز حتضايق انت واخوك؟، فتبسم وهو يهدىء من روعه ويقول فى ثقة ” كل اللى يهمنا أن نشوفك مبسوط وسعيد”. ورغم تشجيع “سمير” لعمه بالزواج بل بارك زواجه حتى الارملة التى حدثه عنها رحب بها بل وأيده فى انها الزوجة التى ستسعده وتعوضه الايام الخوالى.. إلا أن “أشرف” كان على النقيض فى ذلك.. لقد توجس خيفة من تلك المراة .. كان يرى أن زواج عمه غير مناسب، فهى من “عجينة” أخرى غسر “عجينته”..إنها امراءة “سبور”تهوى “الشياكة” والمظاهر.. بينما عمه عاش حياته على نقيض ذلك.. منطوياً على نفسه، متفانياً فى إرضاء زوجته المريضة.
اعتبر “أشرف” أن إصرار العم على الزواج هو عصيان لتقاليد الأسرة خصوصاً أنه يكبرها بأعوام كثيرة، وأن جمالها الأخاذ يثير التساؤل والدهشة فى علة زواجها منه رغم أن كفتى الميزان غير متعادلتين، فجمالها وصباها وأنوثتها الفياضة تستطيع أن تتزوج الشاب المناسب لها.. أما وقد ألقت بشباكها على هذا التحو على عمه فقد وجدت فيه “صيداً” ثميناً أو بمعنى أخر “زواج مصلحة”، بعد أن سال لعابها أمام ثروته وممتلكاته التى جمعها بشقاء عمره.
وتم زواجهما.. بارك الاخ الأكبر هذا الزواج وأبدى سعادته وترحيبه به فكل ما يسعده يجعله فرحاً، يريد أن يرد له جزءاً يسيراً من جميل عمه عليه وعلى أخيه والمرحومة والدته.. لكن الأخ الأصغر أصر على تمرده ورفضه لهذه الزيجة وأعلنها صراحة وبملء فيه أنه رافض لهذه الزيجة غير المتكافئة.
ورغم أن الأخ الأكبر كان متزوجاً ويقيم مع زوجته وابنه الصغير فى شقة بعمارة العم.. كان شقيقه الأصغر مازال يقيم مع عمه وزوجته، فقد أبى كرم العم وهو الذى اعتبره بمثابة ابن له أن بتركه ليعيش بمفرده بعد الزواج خصوصاً أنه كان قد تقدم لخطبة فتاة، وكان على مشارف عقد قرانه بها، فأيامه- مع عمه- معدودات لإعداده شقة الزوجية ليعيش فيها. كان الليل هادئاً عندما قطعت سكينته صرخات زوجة العم وهى تبكى بهستريا.. زوجى اتقتل..اتقتل وهو بيصلى.
كانت صرخاتها بلا وعى: أشرف قتل عمه..أنا شفته بيقتله بساطور على رأسه وهو بيصلى. تم إلقاء القبض على “أشرف” وهو لا يصدق هو ما حدث، واعتصم بالإنكار.
أكدت شهادة زوجة العم بتحقيقات النيابة أنها رأته وهو يهوى على رأس عمه وهو ساجد فى الصلاة ب “ساطور” كان فى يده. وكانت المفاجأة أن شقيقه الأكبر شهد ضده أيضاً، وأكد صحة ما قررته زوجة عمه، وأضاف فى التحقيقات أن شقيقه ناصب عمه فى العداء منذ أن فكر فى الزواج بل وهدده اكثر من مرة، وتوعده بانه سيقاوم هذا الزواج ولن يسمح باستمراره.
واستطردت الزوجة مضيفة :” أنها نجت من الموت بأعجوبة.. إذ هوى عليها بالساطور عندما فأجاته وهو يرتكب فعلته الشنعاءـ ولكن من حسن حظها اندفعت أمامه وهى تصرخ فلاذ بالفرار.
تم تقديم الاخ الأصغر للمحاكمة، وقضت محكمة أول درجة بإعدامه شنقاً.
كانت تلك هى وقائع القضية واحداثها حسبما سطرت أوراقها.