ترامب يسدّد أوّل لكمة لنتنياهو!

على عكس كل توقعات بنيامين نتنياهو، وكل طواقمه الحكومية والحزبية الفاشية، وعلى عكس التوقعات كلها أعلن دونالد ترامب «انسحابه» من الحرب مع جماعة أنصار الله «الحوثيين» اليمنية، والوصول إلى وقف لإطلاق النار بوساطة عُمانية ناجحة على ما يبدو، والبيان العُماني هو القول الفصل، بصرف النظر عن تشدُّقات ترامب عن سياق هذا الاتفاق.
الاتفاق بكلّ المقاييس انعطافة كبيرة ستغيّر كل المشهد الإقليمي، وستقلب كل أوضاعه رأساً على عقب، وستبعثر كل الأوراق التي كان يلعبها نتنياهو، وكل الأوراق التي راهن عليها.
ما الذي جرى حتى ينقلب ترامب على نتنياهو؟ ولماذا أقدم على هذه الخطوة الانعطافية والمفصلية في هذه اللحظات الحاسمة، والتي هي لحظات على أعلى درجات الدقّة والحساسية؟
دعونا نعد إلى سياقات أخرى في محاولة الإجابة عن هذا السؤال.
على مدار الأسابيع السابقة، وفي عدة مقالات متتابعة قلنا إن ترامب بنى إستراتيجية على مقولة إعادة العظمة إلى أميركا بواسطة إعادة بناء وإعادة تسليح هذا الاقتصاد بتكنولوجيات جديدة تعتمد على منظومات جديدة تحتاج إلى كميات كبيرة من المعادن الحيوية، وإلى معادن أخرى نادرة لا تتوفر لدى بلاده.
أثرياء أميركا الذين أيّدوا ترامب، والذين أوصلوه إلى البيت الأبيض اتفقوا معه على هذه الإستراتيجية، وأقنعوه أنّ الاقتصاد الأميركي لن يتمكن من منافسة الصين، ولا بمجاراة روسيا في الصناعة والإنتاج المدني والعسكري إلّا بضخّ تريليونات كثيرة في مجال إعادة تسليح الاقتصاد الأميركي على هيئة تدفُّقات مالية يقوم هؤلاء الأثرياء بتوظيفها في دوراتهم الاقتصادية لإعادة بيعها للدولة الأميركية، وبذلك يجني هؤلاء الأرباح الخيالية، ويعود الاقتصاد الأميركي لموقع القوة والكفاءة والريادة العالمية، لكي يصار فيما بعد، وليس قبل ذلك أبداً الى إعادة تسيُّد المشهد العالمي من على قاعدة اقتصادية جديدة وصلبة وراسخة حسب رؤاهم.
لهذا كله فإن الحروب ستبقى مؤجلة إلى ما بعد إنجاز هذه الإستراتيجية، والحقيقة أنّ الحروب إذا لم تكن صغيرة وسهلة بحيث لا تتورّط أميركا بحروب أكبر وأخطر منها هي إحدى ركائز و»ثوابت» ترامب.
قلنا في المقالات المشار إليها إن ترامب، وكذلك بلاده لن تخوض حرباً إقليمية طاحنة لإرضاء نتنياهو، لكنها مستعدة فقط لخوضها إذا كان «أمن ووجود» دولة الاحتلال مهدّداً بصورة حقيقية كما كان عليه الأمر في الأيام التي أعقبت هجوم «طوفان الأقصى»، وقد رمت بكلّ ثقلها في هذه الحرب العدوانية من على هذه القاعدة، بل وتولّت بنفسها قيادتها، وعلى كل جبهاتها من أجل عدم هزيمة دولة الاحتلال، وقد تمكنت من ذلك فعلاً، وبالرغم من أن جو بايدن قد تساوق مع طموحات «الائتلاف العنصري الفاشي» الذي يرأسه نتنياهو، وبالرغم من كل الدعم الذي قدمه ترامب لهذا «الائتلاف» إلّا أن نتنياهو، وبسبب المأزق الخاص الذي يعيشه على كل المستويات الداخلية والخارجية، الميدانية والعملياتية «طوّر» الأمر إلى «إستراتيجية» جديدة نحو هيمنة كيانه الكولونيالي على الإقليم كلّه، ونحو بناء كيان السيطرة الكاملة على دول المحيط من خلال الأهداف كلّها، بأقصى درجات القتل والتدمير والإبادة، وأدخل نفسه في حروب عدوانية لا يمكنه الانتصار بها إلّا بتوريط أميركا بها.
أُعطي نتنياهو السلاح والوقت وكل الإمكانيات لكنه لم يتمكن من حسم أي جبهة بما في ذلك السورية، حيث بدأت الأمور تنقلب بصورة تدريجية إلى آخر ما كان يهدف له، وإلى عكس كل مراهناته على نظام أحمد الشرع بعد أن ثبت له أن الأخير لا يملك أيّة أوراق حقيقية في المشهد السوري، بل وثبت له أن الإذعان الكامل للشرع حتى لو أراد لن «يحلّ» أزمته، بل ربّما سيفاقمها أكثر وأكثر.
غلطة الشاطر، و»الحقيقة أن نتنياهو لم يعد شاطراً كما كان»، كانت عندما حاول أن يخرب المحادثات الأميركية الإيرانية من دون علم ترامب، ومن وراء ظهره، فما كان من ترامب، وعلى الفور، ومن دون أيّ إبطاء بأن أقال «زلمة» نتنياهو في البيت الأبيض، وقرّر أن يلقّن الأخير الدرس الأوّل في لعبة من يحكم، ومن يتحكّم بالبيت الأبيض.
وقبل أن تتعرّض حاملاته وبوارجه وسفنه في البحر الأحمر لعمليات كبيرة من التدمير أو الإصابات القاتلة، وخصوصاً بعد تدمير طائرتين من سلاح الجو الأميركي، وقبل أن تؤدّي عمليات القصف المتبادل ما بين جماعة أنصار الله «الحوثيين» اليمنية، ودولة الاحتلال إلى اشتعال حرائق كبيرة تطال الموانئ والمطارات وتجمعات الطاقة والصناعات الحسّاسة والخطرة، قبل أن تؤدّي إلى كل ذلك، وربما إلى ما هو أخطر من ذلك أعلن ترامب قراره بوقف إطلاق النار مع «الحوثيين».
انسحاب البحرية الأميركية من البحر الأحمر أو تجميد نشاطها العسكري كلياً يعني أن على دولة الاحتلال أن تتحمّل وحدها مسؤولية استمرار الحرب والقصف المتبادل مع «الحوثيين»، وأن على الكيان أن يوقف هذه الحرب إذا عجزت عن مواصلتها، وأن عليها بالتالي أن توقفها في غزّة إذا عجزت عن تحمّل أعباء وتبعات القصف «الحوثي» الذي بات كما يجمع الخبراء، كل الخبراء خطراً إلى أبعد حدود الخطر، إضافة إلى مفاعيله المعنوية الهائلة على دولة الاحتلال.
باختصار، مهّد ترامب كل الأرضية المناسبة والمواتية، أيضاً، لزيارته إلى المنطقة، وطرح مبادراته المتوقعة على أكثر من صعيد سياسي واقتصادي، وعلى مستويات إستراتيجية تعكس تمسّكه بإستراتيجية إعادة بناء الاقتصاد العسكري الأميركي، وإعادة تعملقه، وهي عملية تحتاج إلى الاستقرار، والتهدئة، وإعطاء الفرص، وليس الحروب واستمرارها، خصوصاً عندما تكون على حساب المصالح العليا للدولة الأميركية.
وقع نتنياهو في الفخّ، ولم يعد لديه سوى أن يغادر الحلبة.
ترامب أغدق عليه، وطبطب على كتفيه، ومكّنه من مواصلة الإبادة الجماعية والكارثية، ووفّر له كل ما أراد، لكن نتنياهو حاول أن يلعب ويتلاعب بترامب، وحاول أن يوحي للطواقم الصهيونية المحيطة بالأخير أن نتنياهو ما زال اللاعب أو ما زال لاعباً قوياً في أروقة البيت الأبيض، فكانت له اللكمة الأولى التي تلقّاها باتفاق وقف إطلاق النار بين أميركا و»الحوثيين».
المقاربة التي سيطرحها ترامب، ومن أجل «شفط» تريليونات دول الخليج وضخّها في الاقتصاد الأميركي لن تكون سوى «إطار» عام من دون أي التزامات ملموسة، ولكنها مقاربة ستؤدّي في نهاية المطاف القريب إلى إنهاء الحرب الهمجية على القطاع، وإلى البدء الفعلي بمرحلة جديدة من التهدئة الإقليمية الشاملة. ستنشط القوى الإقليمية كلها لإعادة تموضعها، ولإعادة دورها ومكانتها في خارطة الإقليم.
واضح لكلّ مراقب أن إيران ستكون قد تجنّبت الحرب الكبرى عليها، وأنها ستحصل على اعتراف دولي بحقها في امتلاك التقنية النووية، وسيتم شرعنة هذا الحق مقابل إعادة اندماجها في الاقتصاد الإقليمي والدولي على حد سواء.
وواضح على هذا الصعيد أن إيران ستتنازل عن كثير من أدوارها «السابقة» مقابل ذلك، وستتغير وسائلها وأدواتها في تحقيق مصالحها «القومية».
أما المملكة العربية السعودية، وكما أشرنا أكثر من مرة في المقالات المشار إليها فإنها ستتكرّس كدولة إقليمية كبرى بدور سياسي جديد وكبير، وستكرّس كقيادة أولى للإقليم العربي والإسلامي.
«الحوثيون» موضوعياً خرجوا وسيخرجون منتصرين من هذه المواجهة، وقد نكون أمام مفاجأة العصر العربي بتحوّل بلادهم إلى دولة إقليمية جديدة من خلال ما تملكه من إمكانيات عسكرية، ولكن وقبل كل شيء من خلال ما تملكه من إرادة وطنية، ومن موقف داعم لفلسطين بصورة لم يسبق أن وقفته أي دولة عربية.
دولة الاحتلال العنصرية والفاشية هي الخاسر الأكبر، وتركيا ستتحجّم كثيراً عمّا كانت عليه قبل «سقطتها» بالاندماج في مخطّط الدولة العبرية، ومخطّط الولايات المتحدة لتدمير سورية، وتفتيتها، أو محاولة تفتيتها.
إذا تمكّن ترامب من إرساء قواعد ملزمة لمقاربته المتوقعة فإن الإقليم كله يصبح في الطريق للمرّة الأولى نحو البحث عن المقاربة الأصعب، مقاربة تلبّي الحدود الدنيا من الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وهي المقاربة التي تعني ــ بصرف النظر عمّا ستكون عليه من حالة إجحاف بهذه الحقوق ــ أن المشروع الاستعماري الصهيوني سيعود إلى حجمه الحقيقي، وهو حجم يوازي في قيمته النوعية الجديدة ما يشبه الانكفاء التاريخي.