جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
لم تكن الثقافة يومًا زينة تُضاف إلى الحياة كما تُضاف الألوان إلى جدارٍ باهت، بل هي نَفَس الوجود ذاته، وجوهر الأمم حين تنظر إلى نفسها فتدرك من تكون وإلى أين تسير. إنَّ الأمم التي تفقد بوصلتها الثقافية تفقد معها وجهتها، فتغدو كالسفينة التي تبحر في ليلٍ بلا نجوم، تتقاذفها الأمواج، ولا تُدرك أيّ شاطئٍ ينتظرها، لأن الثقافة ليست رفاهية، بل هي وعيٌ يُبقي الشعوب على قيد الإدراك، يحرس ذاكرتها من التآكل، ويُعيدها في كل جيل إلى جوهرها الأول.
الثقافة ليست كلماتٍ تُقال ولا مؤتمراتٍ تُقام، بل هي فعلٌ يوميّ متراكم، يتسلل إلى السلوك والعادة، إلى طريقة النظر في الأشياء، إلى معنى الجمال حين يُصاغ في وجدان الناس، وإلى الصدق حين يتحوّل إلى منهجٍ للحياة. إن بناء الوعي لا يتم بقرارٍ من فوق، ولا بصرخةٍ من منصة، بل يبدأ من عمق الفرد، من رغبته في الفهم، من سعيه لأن يرى الحقيقة بعينٍ حرة لا تُقاد، ومن إيمانه بأن الإنسان بلا وعي كالشجرة بلا جذور، تبدو قائمة لكنها هشة، لا تصمد أمام الريح.
لقد تفرقت المسارات، وتعددت الأصوات، وغابت الرؤية الواحدة، حتى صارت الساحة الثقافية مثل مرآةٍ مشروخة، يرى فيها كلٌّ نفسه فقط، ولا يرى المجموع. هنا تبرز الحاجة إلى توحيد البوصلة، إلى استعادة الاتجاه نحو الغاية الأسمى: الوعي. لا وعي يُبنى على الصخب، ولا ثقافة تنمو في الفراغ. إن الثقافة إذا انفصلت عن رسالتها تحولت إلى دُميةٍ أنيقة، تتحرك بلا روح، وتُساق حيث تُساق الأموال، وتُصبح وسيلة للإبهار لا للبناء، للزينة لا للحقيقة.
الدراما، والفن، والأدب، ليست أدوات تسلية، بل جبهات للوعي، وميادين تُختبر فيها ضمائر الأمم. حين تتحول الكلمة إلى مرآةٍ يرى الناس فيها حقيقتهم، وحين يعيد العمل الفني صياغة السؤال لا الإجابة، يتحقق جوهر الفعل الثقافي. الفن لا يعيش طويلاً إلا إذا كان صادقًا، والدراما لا تُخلّد إلا إذا جعلت الإنسان يرى نفسه من جديد، ويتأمل ما آل إليه، فيتغير. فالفن الذي لا يُغيّر لا يُثمر، والدراما التي لا تُفكّر لا تُبصر.
الثقافة ليست مهنة، بل مسؤولية، ومن يختارها يختار أن يكون في مواجهةٍ مع الرداءة، مع الابتذال، مع الضجيج الذي يُغري ولا يُنضج. المثقف الحقيقي لا يُقاس بما يملك من شهرة أو ألقاب، بل بما يُنير من دروبٍ في عقول الآخرين. هو أشبه بالفلاح الذي يزرع الوعي في أرضٍ قاحلة، واثقًا أن الحصاد سيأتي، ولو بعد حين، لأن الوعي لا يُثمر في موسمٍ واحد، بل يحتاج إلى صبرٍ وحلم وإصرارٍ طويل.
توحيد البوصلة الثقافية لا يعني توحيد الصوت أو الرأي، بل توحيد الاتجاه، أن تسير الخطى المتنوعة نحو هدفٍ واحد، هو الإنسان الواعي القادر على التمييز بين ما يُرفع ليُبهر، وما يُقال ليُبني. التنوع ليس خطرًا، لكنه يصبح كذلك حين يتحول إلى تشظّي، وحين يذوب الهمّ الوطني في صخب المصالح الشخصية. الأمة الواعية لا تخاف الاختلاف، لكنها تخاف الفُرقة، ولا تُقصي الرأي الآخر، لكنها تحذر من الضوضاء التي تحجب الفكرة.
لقد كانت الثقافة المصرية عبر العصور منارة العرب، تُضيء وتُهذّب وتُلهم. في لحظات التاريخ الفاصلة، كانت الكلمة المصرية تُبصر الطريق قبل أن يراه الآخرون، وكانت الدراما والمسرح والفن مرآةً للوعي لا مرآةً للزخرف. لم يكن المثقف يومها يبحث عن ربحٍ أو شهرة، بل عن معنى يضيفه للحياة، وعن أثرٍ يبقى بعده. واليوم، وقد تكاثرت المنصات وتزاحمت الصور، صار لزامًا علينا أن نُعيد ترتيب عقولنا قبل أوراقنا، وأن نُعيد تعريف ما نُسمّيه نجاحًا، وما نُطلق عليه فناً.
الوعي هو المعركة الكبرى في هذا العصر. لا يُرى ولا يُقاس، لكنه يُحدد مصير الأمم. من يملك الوعي يملك زمام مستقبله، ومن يُفرّط فيه يصبح تابعًا وإن ظنّ أنه حر. إن توحيد البوصلة الثقافية هو ما يُبقي الأمة على قيد الإدراك، هو ما يجعل خطواتها في الطريق واحدة وإن اختلفت السُبل.
فلنُعد إلى الثقافة معناها الأصيل: أن تكون ضمير الأمة، وصوتها الداخلي حين يصمت الجميع. لنجعل من الفن منبرًا للوعي، لا بضاعةً تُعرض في الأسواق، ولتكن الكلمة سيفًا يقطع الوهم، لا ظلًا يكرره. فالأمم لا تُبنى بالاقتصاد وحده، بل بما تملكه من وعيٍ بذاتها، ومن إيمانٍ بأن الثقافة ليست زخرفًا ولا رفاهية، بل ضرورة للحياة، كالماء للزرع، وكالنور للعين، وكالحق للضمير.
حين تتوحد البوصلة الثقافية، تستقيم المسيرة، ويستعيد الإنسان قدرته على أن يرى ذاته في مرآة الوطن، لا في مرايا الآخرين. عندها فقط، يمكن أن نقول إننا بدأنا ننهض، لا بالمال، بل بالعقل، لا بالصوت العالي، بل بالصدى العميق الذي تتركه الفكرة حين تصيب القلب قبل الأذن، والروح قبل الجسد.
