حرصت قطر منذ وقت طويل، على الظهور كوسيط ولاعب رئيسي في الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، والذي تعزز في محطات التهدئة بين حماس وإسرائيل، وفي محاولات إنهاء الانقسام الفلسطيني الداخلي. غير أنّ هذه الوساطة لم تثمر أي إنجاز جوهري يمكن البناء عليه، لا في وقف الحروب بشكل مستدام، ولا في تحقيق المصالحة الوطنية الفلسطينية. بل إن حصيلتها اقتصرت في معظم الأحيان على إدامة حالة الجمود وتعزيز بقاء حماس كسلطة أمر واقع في قطاع غزة، ولعل 18 عاماً من الدعم المالي لحركة حماس، وخلق تفاهمات ما بين نتنياهو وحماس، كانت كفية بالوصول لهذا التصور.
لقد وظفت الدوحة إمكانياتها المالية والسياسية والإعلامية لدعم حماس، ليس فقط في تثبيت حكمها داخل القطاع، بل أيضًا في إعادة تسويقها أمام المجتمع الدولي وكأنها الممثل الحقيقي للشعب الفلسطيني. قناة الجزيرة لعبت دورًا مركزيًا في هذه العملية، من خلال تضخيم صورة الحركة وإبرازها كقوة كبرى على الساحة، في حين أن هذا الترويج ساهم بشكل غير مباشر في تكريس الانقسام وإضعاف الإطار الوطني الجامع.
و ما تقوم به الجزيرة من دعوة المحللين الذين يتبنون وجهات نظر حماس، ونقل الأخبار التي تتسرب لها من الميدان بما يخدم ذراعها العسكري، بينما تتجاهل بدرجة ما الأحداث الإنسانية وتغطية ما يتعرض له المدنيون في غزة، يمثل مؤشرًا واضحًا على أبعاد الدور القطري. كذلك محاولاتها المستمرة لتشويه منظمة التحرير الفلسطينية، عبر نقل أخبار ملفقة أو تضخيم وفبركة بعض التصريحات والمواقف بما يجعلها موضع إدانة أمام الرأي العام، يثير مزيدًا من الشكوك. هذه الازدواجية في المواقف، والانحياز الواضح في التغطية الإعلامية، تؤكد أن ما تقوم به قطر يتجاوز الحياد المفترض، وتدفع للقول إن هناك ما خفي أعظم في حقيقة دورها.
ولعل ما يزيد من الشكوك حول حقيقة الدور القطري، أن الدوحة ربطت في أكثر من محطة استمرار أو توقف مفاوضات وقف الحرب بمسائل إجرائية تتعلق بعلاقتها مع إسرائيل، مثل مطالبتها باعتذار رسمي على خلفية التصريحات أو المواقف المتعلقة بعملية الدوحة، في حين أن حرب الإبادة والدمار والدماء المتدفقة في غزة بدت وكأنها مسألة ثانوية لا تحظى بالوزن ذاته في حساباتها. هذه المفارقة تعكس بوضوح أن الأولوية في الدور القطري ليست إنقاذ المدنيين أو وقف المأساة الإنسانية، بل تثبيت صورتها كوسيط وحماية مكانتها السياسية، حتى وإن كان الثمن استمرار نزيف الدم الفلسطيني.
الأسئلة تتزايد حول إصرار قطر على الاستمرار في هذا الدور رغم محدودية نتائجه. فهل هي مجرد رغبة في خدمة القضية الفلسطينية، أم أن الأمر يتعلق باستثمار سياسي محسوب؟ الواضح أن الوساطة تحولت إلى أداة تمنح الدوحة مكانة دبلوماسية دولية تفوق حجمها الجغرافي والديمغرافي، وتمنحها أوراق ضغط أمام واشنطن وتل أبيب، وتتيح لها تسويق نفسها كفاعل إقليمي لا يمكن تجاوزه. إنها محاولة لبناء “ماركة سياسية” تستند إلى القضية الفلسطينية كورقة قوة، أكثر من كونها التزامًا صادقًا بدعم الفلسطينيين.
إن عملية الدوحة، والتي حاولت من خلالها إسرائيل اغتيال قادة من حماس على الأراضي القطرية، حملت بدورها دلالات لا يمكن تجاهلها. فقد بدت وكأنها رسالة واضحة مفادها أن دور قطر كوسيط بدأ يفقد قيمته، أو أن إسرائيل لم تعد ترى ضرورة لاحترام مساحة الوساطة القطرية، وقد عزز ذلك الموقف الأمريكي المتناقض، لكن، بدلًا من أن تكون تلك الحادثة نقطة مراجعة للدوحة، استمرت الأخيرة في التمسك بموقعها في هذه اللعبة المعقدة، الأمر الذي يثير مزيدًا من الشكوك حول طبيعة الحسابات الكامنة وراء إصرارها.
ما تقوم به قطر إذن ليس عملًا بريئًا أو مجرد مسعى إنساني لتخفيف معاناة الفلسطينيين، بل هو سياسة تحمل في طياتها الكثير من الغموض والظلال. فالنتيجة الملموسة الوحيدة هي إدامة الانقسام وتعزيز شرعية فصيل على حساب المشروع الوطني الجامع، في حين يستمر الاحتلال في حربه المفتوحة. وإذا كان ثمن “الوساطة” القطرية هو تكريس التجزئة وتفريغ القضية من مضمونها، فإن إعادة النظر في هذا الدور تبدو ضرورة وطنية، حتى لا تتحول الوساطة إلى أداة إضافية بيد الاحتلال بدلًا من أن تكون جسرًا لتحقيق الوحدة والتحرر.
إنّ التجربة العملية تكشف أن الدور القطري في ملف غزة لا يقدّم حلولًا بقدر ما يفاقم الأزمات ويكرّس الانقسام. لذلك، فإن تحييد هذا الدور أصبح ضرورة وطنية وأخلاقية، وفتح المجال أمام مصر لتكون الوسيط الوحيد بحكم ثقلها التاريخي والجغرافي والسياسي في القضية الفلسطينية، أو اللجنة السداسية العربية، والتي اقرتها القمة الأخيرة للعمل على وقف الحرب. إن بقاء الوساطة موزعة على أكثر من طرف، وخصوصًا بوجود قطر بهذا الأداء الملتبس، سيُبقي كثيرًا من الأسئلة مفتوحة، بانتظار إجابات واضحة ومحددة حول حقيقة ما تريده الدوحة، ومن المستفيد من استمرارها في هذه الساحة.