ترى حكومة الإبادة الجماعية في تل أبيب في استمرار الحرب بوابةً للمضيّ في مخططات الحشر في معسكرات الإبادة والتجويع، كمقدمة لتنفيذ الترانسفير الجماعي، كما تعتبرها ملاذًا سياسيًا لبقائها في الحكم. فهي، وفي ظل تعطيل واشنطن لأدوات وأُطر القانون الدولي، لا تأبه كثيرًا لمتغيرات المواقف الدولية، التي لم تعد قادرة على الصمت تجاه ما يجري من إبادة جماعية وكارثة إنسانية غير مسبوقة في العصر الحديث. كما ثبت عدم اكتراث هذه الحكومة بقضية المحتجزين الإسرائيليين كوسيلة لوقف الحرب.
من ناحية أخرى، فإن حركات المقاومة، وخاصة حماس التي تقود المواجهة والمفاوضات لوقف الحرب، لا تستطيع أن تمضي في ما يُعرض عليها من مقترحات لا تنص، أو على الأقل لا تضمن، وقف الحرب. فهي تدرك نوايا ومخططات حكومة تل أبيب، التي خرقت اتفاق يناير برفضها الانتقال إلى المرحلة الثانية منه، والخاصة بالتفاوض على وقف دائم للحرب.
لقد اختارت حماس الرد الإيجابي على ورقة ويتكوف، التي كانت محمّلة بملاحظات وتفاصيل، وإن كانت كلها محقة، إلا أنه كما كان متوقعً، اعتبرها نتنياهو رفضًا للمقترح، الذي كان قد صمّمه وزيره دريمر في زيارته الأخيرة إلى واشنطن. ومع ذلك، لم يكن نتنياهو قد قَبِلَ ذلك المقترح رسميًا إلا بعد رد حماس عليه. وقد اعتبر ويتكوف أن رد حماس غير مقبول إطلاقًا، بل أضاف أنه لا يمكن وقف الحرب دون حلّ مسألة تخلي حماس عن الحكم، وكذلك عن سلاحها.
نتنياهو، الذي عاد إلى المفاوضات بضغط من إدارة ترامب، فرض معادلة التفاوض تحت النار المتدحرجة وفق ما يُعرف بـ”عربات جدعون”، ومعها يُجهّز مسرح حشر الناس للحظة يتمكن فيها من تهجيرهم تحت ضغط سلاح التجويع. كما أنه ماضٍ في مفاوضات فرض الاستسلام على المقاومة، والسعي لاجتثاثها كما يُكرر باستمرار؛ ليس فقط بتجريدها من السلاح، بل وبإخضاع الشعب الفلسطيني لقبول الأمر الواقع الذي يُمكّنه من إعلان النصر.
وفي الوقت نفسه، وتحت دوي المدافع في غزة، تتواصل مخططات الضم والاستيطان والتهويد على نطاق واسع في مختلف مناطق الضفة الغربية، بما فيها القدس، وفق ما بات يُعرف بـ”خطة الحسم”، كما يُطلَق العنان لميليشيات المستوطنين الإرهابية، التي جرى تسليحها وتنظيمها بقرارات رسمية من حكومة الاحتلال، دون أن يتجاوز الرد الفلسطيني والعربي، وكذلك الدولي، حدود إصدار بيانات شجب وإدانة.
أمام هذا المأزق بكل أبعاده، وأخطرها الكارثة الإنسانية في غزة وخطر التهجير منها ومن الضفة لاحقًا، فإن المسؤولية الوطنية تتطلب إعمال العقل دون التخلي عن مطالب الشعب الفلسطيني بوقف الإبادة الجماعية، والانسحاب الشامل من قطاع غزة، وتوسيع الإغاثة الإنسانية لأهله، والبدء بالإيواء، وتوفير الأمل بإمكانية وأد مخططات التهجير، والانطلاق في الإعمار. والسؤال هو: كيف يمكن التقدّم نحو ذلك؟
ربما كان على حركة حماس، وما زال ذلك ممكنًا، في إطار ردها الإيجابي على ورقة ويتكوف المليئة بالمخاطر والمحاذير، أن يتضمن ردها، أنه وفي ظل غياب أية ضمانات، واتضاح أهداف نتنياهو الذي يفاوضها على كيفية اجتثاثها، وتأكيدًا على جدية مواقفها المعلنة، بأنها، وانطلاقًا من حرصها على إعادة توحيد شطري الوطن، وما يتطلبه ذلك من تخليها عن حكم القطاع، فإنها تُسلم ملف قطاع غزة بكل مكوناته ومستقبله كجزء لا يتجزأ من الكيانية الوطنية، إلى حكومة وفاق وطني مستقلة، مؤتمنة، ومفوّضة من الكل الوطني، لاستكمال المفاوضات بما يضمن تحقيق مطالب الإجماع الوطني. فباستثناء نتنياهو، لن يجد هذا الموقف معارضة من أحد، سيّما أنه يُقدّم رؤية وطنية وواقعية لما بات يُعرف بـ”اليوم التالي”.
هذا، بالإضافة إلى أن حكومة انتقالية كهذه سيكون في مقدمة أولوياتها، إلى جانب وقف الحرب، التصدي لمخططات الضم في الضفة، منطلقة من الإجماع الوطني والثقة الشعبية التي تمكّنها من مخاطبة العالم، ليس فقط لوقف الحرب وإعمار القطاع، ومنع التهجير، والتصدي للاستيطان والإرهاب الاستيطاني، بل واستثمار التحولات في المواقف الدولية نحو إنهاء الاحتلال وتقرير مصير شعبنا على أرض وطنه؛ كي لا تذهب التضحيات الهائلة التي قدّمها شعبنا مع الرياح العاتية، حيث لم نعد قادرين، دون استعادة وحدتنا وتوحيد مواقفنا، على مواجهتها.