كتبت بعض القبائل الجزائرية إلى الأمير عبد القادر الجزائري تقول: “إن فرنسا جبلٌ راسخ لا يُهدم، وإنّ ملازمة البيوت مع العيال أهون وأأمن من ركوب بحر الثورة الهائج، فما تدعونا إليه غير هلاكٍ محتوم ودمارٍ على أيدي دولة لا تُقهر.”
وتوالى الخذلان إذ توقّف سلطان المغرب الأقصى مولاي عبد الرحمن عن مدّ الأمير بالسلاح والرجال، خشيـة بأس فرنسا وسطوتها. قال الجزائري غاضباً: «لقد صنع السلطان بنا ما يقوّي حزب الكافر على الإسلام ويُضعف صفوفنا، أعانهم في شدّتهم، وأمسك عنّا الكيل.» ثم أضاف في كبرياء وعزة المؤمن: «أُمِرنا بترك الجهاد فأبينا؛ إذ لا ولاية له علينا، ولسنا من رعيّته.»
ووجّه رسالته إلى علماء الأزهر، يستفتيهم: هل يُعذر حاكم يسلّم المجاهدين أو يمدّ العدو بعون؟ ثم أجاب بنفسه قبل أن يجيبه أحد: «لا عذر لحاكمٍ يقوّي عدوّ الإسلام على المسلمين، ولا لساكتٍ يرى المنكر ثم يلوذ بالصمت.» كان ينتظر منهم نفخة صدقٍ تُذكي جذوة المقاومة، فلم يسمع إلا همسًا خافتًا لا ينهض بأمة.
وكان عبد القادر يُجلّ الخلافة العثمانية، يراها مظلّة الإسلام ومرجعيته العليا، غير أنّ قلبه ما أخفى جرحه يوم لم يأتِ من إسطنبول جندي واحد ولا سيف مسلول، غير رسائل باهتة ودعاءٍ من بعيد. فقال في أحد مجالسه: «إنما نحن جنود الله، لا جنود إسطنبول. ولو شاء الله نصرتنا لأجرى ذلك على أيديهم، ولكن الله خذلهم كما خذلونا.»
وكتب بدم قلبه كلمته الباقية، التي لخّصت محنته وعبّرت عن ما لاقاه من خذلان: «فررت بديني إلى الله بعدما خذلني قومي، وتركوني نهبًا لعدوي، ولو أنصفوني لكان أمرهم نصري أو موتي.»
هكذا خطّ فلسفته، ورسم معالم عقيدته: أن خذلان الأمة امتحانٌ من الله، غير أنّه لا يرفع عن المؤمن واجب الجهاد، ولا يعفيه من ميثاق الدم والحق.
وكانت عبارته الأخيرة أثقل من الجبال، أوجزت ما تعجز عنه الخطب الطوال: إن منعك الحاكم، أو تخلّت عنك الأمة، فليس لك عذرٌ أن تتخلى عن الجهاد. رحم الله الأمير عبد القادر، ورحم السنوار والضيف، وكل شهيدٍ وأسطورةٍ مضيئة في سفر الأمة.