من غزة الى محيم جنين.. ابراهيم ابراش
ما يجري في مخيم جنين هذه الأيام يدفعنا لاستحضار ما كان يجري في مناطق السلطة بداية تأسيسها وخصوصا في قطاع غزة من مواجهات بين الجماعات المسلحة والسلطة، وإن كان بعض هذه المواجهات يعود لانعدام الثقة بين الطرفين أو بسبب ضعف السلطة إلا أن الخلاف الأكبر كان حول الموقف من اتفاقية أوسلو ومن المقاومة المسلحة، ولو نجحت كل الأطراف في انجاز مصالحة وتحقيق وحدة وطنية ما وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم سواء في قطاع غزة من موت وتدمير أو ما يجري في مخيم جنين وبقية مناطق الضفة من مواجهات مسلحة بين نفس الأطراف تقريبا التي كانت بداية تأسيس السلطة.
بالرغم من مرور ثلاثة عقود على قيام السلطة فإن نفس الاتهامات التي كانت توجه للسلطة قبل ثلاثة عقود توجه لها اليوم في مخيم جنين وفي الضفة عموما بالرغم من أن نهج الطرف الثاني وخصوصا حماس والجهاد الإسلامي أوصلنا إلى ما نحن عليه في قطاع غزة والضفة ولم ينجح في خلق بديل وطني لمنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية التي كانت وما زالت أفضل ما هو موجود من العناوين الفلسطينية بالرغم مما يعتريها من ضعف وحتى فساد وعدم فاعلية.
بالعودة الى ما يجري في مخيمات الضفة وأين يكمن الخلل هل في السلطة وأجهزتها الأمنية؟ أم في المجموعات المسلحة؟ سنعود إلى ما جرى بداية تأسيس السلطة من طرف منظمة التحرير وخصوصا حركة فتح ،فمع أن بعض فصائل منظمة التحرير ومستقلين شاركوا في تأسيس السلطة و انخرطوا في مؤسساتها المدنية والأمنية إلا أن العقيدة السياسية والعسكرية التي سادت السلطة بداية تأسيسها كانت مستمدة من التربية والثقافة الوطنية لحركة فتح وفصائل منظمة التحرير وهي التي سادت عند أبناء الأجهزة الأمنية من الفدائيين الذين شاركوا في كل معارك الثورة وممن انضموا للسلطة عند تأسيسها في مراهنة أن السلطة نواة الدولة المنشودة، وتم تدريبهم وتثقيفهم وطنياً على أن الخصم هو الجيش الإسرائيلي وأن أبناء فلسطين كلهم سواسية ولا يجوز رفع السلاح في وجههم أو إذلالهم.
هذه الخلفية والتربية الوطنية كانت وراء ما تعرض له أبناء الأجهزة الأمنية من اعتداءات واهانات من طرف جماعات اسلاموية وخصوصاً حركة حماس الذين غسلوا عقول المنتمين لهم وأقنعوهم بأن السلطة عميلة لإسرائيل وحللوا دم أبناء الأجهزة الأمنية وقالوا عنهم إنهم جواسيس وخونة وكفرة، وبثوا الحقد والكراهية حتى داخل الأسرة الواحدة.
بسبب التربية والثقافة والعقيدة العسكرية الوطنية للأجهزة الأمنية سكتوا على حَملة السلاح من الفصائل وعلى ممارساتهم واستعراضاتهم الاستفزازية العسكرية ورفعِهم أعلامهم الحزبية وترديدهم شعاراتهم واناشيدهم الخ وكانت أجهزة السلطة تقف موقف المتفرج خصوصا في قطاع غزة حيث كانت تتمركز الجماعات المسلحة حتى قبل سيطرة حماس عليه، بل وكانت شرطة السلطة تُوقف حركة المرور حتى تنتهي فعالياتهم ومسيراتهم.
لم يكن رجل الأمن يجرؤ على اعتقال مسلح (جهادي) وإلا انهالت الاتهامات من حماس وحركات المقاومة بأن السلطة تنسق مع اسرائيل ضد المقاومة، وحتى عندما يتم توقيف مقاومين حماية لهم حتى لا تقتلهم إسرائيل أيضا كانت السلطة مٌتهمة، وكثير ممن كانت تحتجزهم السلطة عندها مؤقتا، أو ما كانت تسمى سياسة الباب الدوار، كانت إسرائيل تقوم باغتيالهم بعد خروجهم من مراكز السلطة.
لأن السلطة وحركة فتح والمنظمة يعتبرون أن في الوطنية متسع للجميع وأن الوطن للجميع فقد شرٌعوا الأبواب للجميع للمشاركة في السلطة وكان رد حماس عدم المشاركة في سلطة أوسلو، مع أنهم تركوا عناصرهم يتسللون لوظائف السلطة واستفادوا من كل الخدمات التي تقدمها السلطة من تعليم وصحة وخدمات اجتماعية وجوازات سفر الخ.
كانت السلطة بالنسبة لحركة حماس مشبوهة والانتخابات مُحرمة عام ١٩٩٦ ،ثم انقلبوا فجأة بتعليمات من جماعة الإخوان وواشنطن عام ٢٠٠٤ ليحللوا الانتخابات البلدية مبررين ذلك بأنها انتخابات غير سياسية، وفيما بعد شاركوا في انتخابات ٢٠٠٦ ،وهذه كانت انتخابات سياسية لمجلس تشريعي لسلطة أوسلو، وفازت فيها حماس وأصبح زعيمها إسماعيل هنية رئيسا لوزراء سلطة أوسلو ،حينها قالوا عن السلطة (هي لله هي لله لا للسلطة ولا للجاه) وبعد ذلك حللوا الدم الفلسطيني ليصلوا للسلطة والان يضحون بأكثر من مائة ألف شهيد ودمار غزة حتى يستمروا في السلطة حتى في ظل الاحتلال.
بالرغم من كل ما فعلوه من خداع وكذب وارتباطاتهم المُعلنة مع إيران ومحور المقاومة وما سببوه من موت ودمار قطاع غزة خلال سيطرتهم عليه منذ ٢٠٠٧، بالرغم من ذلك واصلت حركة فتح التواصل والحوار معهم لتحقيق المصالحة دون جدوى ولم تتعلم حركة فتح من كل تجربتها معهم.
استمرت السلطة وأجهزتها الأمنية تتصرف في الضفة نفس تصرفها في قطاع غزة في بداياته تأسيسها، وكانت تهمة الفساد والتنسيق الأمني مع العدو واتهام الأجهزة الأمنية بأنهم ترييه الجنرال دايتون الأمريكي تطارد السلطة دون أن يكون عند السلطة من يدافع عنها وعن الأجهزة الأمنية وكأنهم صدقوا هذه الاتهامات، فتترددوا في مواجهة المسلحين حتى حركة فتح كان لها مجموعاتها المسلحة في المخيمات .
لم يكن من السهل مواجهة المسلحين والاشتباك معهم مما يؤدي لسقوط قتلى وجرحى بين الطرفين لأن العقيدة الأمنية عند الاجهزة الامنية وتربيتهم الوطنية كما قلنا لا تسمح لهم بإطلاق النار على من يحمل سلاحا ويقول إنه مقاوم، كما كان محرجا لهم مواجهة مقاومين في ظل مواصلة الاستيطان واقتحامات المسجد الأقصى وعربدة المستوطنين حتى وان كانت الشكوك تدور حول انتماء المسلحين، كما أن وجود حالات سوء إدارة وفساد في السلطة كان يجعل السلطة ضعيفة في مواجهة المجموعات المسلحة وفي مواجهة المواطنين.
كان موقف السلطة محرجا فإن تدخلت عسكريا ضد هذه الجماعات سيتم اتهامها بالتعاون مع العدو للقضاء على المقاومة وأن سكتت سيتدخل جيش الاحتلال لاقتحام المخيمات ليقتل المسلحين و يعيث خرابا ودمارا.
كان نتيجة كل ذلك وصول الأمور في مخيم جنين وبقية مخيمات شمال الضفة إلى ما هي عليه من تواجد مئات المسلحين من انتماءات متعددة من داعش وجماعة حماس والجهاد والشعبية وربما جماعات أخرى وإسرائيل وحركة حماس يؤججان الوضع و يعملان على إضعاف
أو إسقاط السلطة الفلسطينية كعنوان للشعب الفلسطيني.
كل ما سبق لا يبرئ السلطة من أي مسؤولية سواء في نهج تعاملها مع المخيمات عموما أو مسؤولية انعدام القفة بينها وبين قطاع كبير من الشعب وعدم وضوح مواقف بعض قيادات السلطة ومنظمة التحرير وحركة فتح من العمل المسلح ومما تمارسه حركة حماس، ويبدو أن هؤلاء يحاولون التغطية على فشلهم وعجزهم بل وفسادهم بالوقوف موقف الحياد وحتى منافقة ومداهنة الجماعات المسلحة وحركة حماس.