يستطيع أي مستمع لخطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أول من أمس، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أن يسجّل الكثير من الملاحظات، وأن ينتبه أيضاً إلى الكثير من المفارقات التي شابت الخطاب، وجعلت منه مادة يمكن الوقوف عندها مطولاً.
الملاحظة الأولى هي أن الرجل يصرّ ويردد، كما هي عادته منذ بداية حربه على قطاع غزة، أنه يقود حرباً للعالم المتحضّر ضد الهمجية والتطرف، كما يسمي من يشن عليهم الحرب. ورغم أن هذا الادعاء كان يجد القليل ممن يتعاطفون معه في الغرب قبل عامين، إلا أنه فقد كل مبرراته بعد الإبادة العلنية التي يشنها جيشه على المدنيين والأطفال في غزة، لدرجة أن العالم المتحضر ذاته الذي يدّعي أنه يقاتل باسمه وإلى جانبه، قد غادر القاعة لمجرد اعتلائه المنصة ولم يبق منه أحد، إلا إذا اعتقد نتنياهو أن تسمية العالم المتحضر تخص وفد دولته ووفد الولايات المتحدة، وبعض الجزر التي يجد العالم المتحضر، وغير المتحضر، صعوبة في نطق اسمها أو إيجادها على الخارطة.
وبهذا فإن نتنياهو لا يعزل نفسه ودولته فقط، بل يساهم بشكل جاد في عزلة الولايات المتحدة الأميركية. ولهذا السبب بالذات علينا كفلسطينيين أن نكف عن استخدام مصطلح «الغرب» جزافاً وكأنه سلّة واحدة، وأن نبدأ ولو متأخرين بتحديد أعدائنا وأصدقائنا، بعيداً عن التاريخ وأعباء الماضي.
الملاحظة الثانية لها علاقة بشكل ما بالأولى، وهي تخص مخاطبته لدول الغرب بأن دولته «وجنودها الشجعان» هم من حموها من الإرهابيين، وهنا كان يقصد أوروبا بالتأكيد، خصوصاً أنه استبق هذه الجملة بادعاء أن «إسرائيل تقوم بالعمل الذي لا يريد أحد القيام به» على المستوى الاستخباري، وكمية المعلومات التي تُقدم لأميركا وغيرها.
قد تكون ملاحظة تقديم المعلومات صحيحة، وهي غالباً كذلك، فلا أحد ينكر قوة إسرائيل وقدرتها في الجانب الاستخباراتي. لكن ألا يحق للمتابع الأوروبي الذي تتم معايرته بالحماية من قِبل نتنياهو، أن يتساءل، كما يتساءل الإسرائيلي نفسه: أين كانت هذه القوة؟ ولماذا فقدت فاعليتها قبل عامين مثلاً؟ ناهيك عن أن اليائس قد يلتبس عليه تعريف المرتزقة.
الملاحظة الثالثة، هي أن نتنياهو، في هذا الخطاب، نصّب نفسه متحدثاً باسم اليهود في العالم وليس باسم الإسرائيليين، لكنه في نفس الوقت سقط في فخ مقارنة نفسه بقاتلهم لا بالمدافعين عنهم. ففي معرض دفاعه عن نفسه أمام تهمة الإبادة الجماعية، ادعى أن طلب جيشه من الفلسطينيين مغادرة مناطق القتال يدحض النية المبيتة للإبادة، ثم تساءل: هل فعل النازيون ذلك؟
وعند حديثه عن التجويع لأهل غزة وإنكاره لهذه التهمة، ختم جملته بالقول: من يتهم إسرائيل ليس أفضل ممن حرم اليهود من الطعام أثناء المحرقة. لا أحد، بالتأكيد، فهم ما علاقة هذه بتلك، لكن الرجل ودون أن يدري، كان يدافع عن نفسه كمتهم بمحرقة تشبه تلك التي تعرض لها اليهود في القرن الماضي على يد النازيين. ناهيك بالطبع عن اللغة الإجرامية المقيتة في محاولة نفي تهمة التجويع بمنطق مناقشة السعرات الحرارية التي يتلقاها كل فرد من أفراد الشعب الفلسطيني في غزة.
الملاحظة الرابعة هي أن نتنياهو نفسه، في هذا الخطاب، قد اعترف بالدولة الفلسطينية. قد يبدو هذا الكلام غريباً، لكن الرجل قال صراحة: إنه مع حل الدولتين لكن الفلسطينيين هم من يرفضون هذا الحل، ويريدون تدمير دولة إسرائيل، بل ويستخدمون الأراضي التي ننسحب منها للاعتداء علينا، كما قال.
ثم استرسل بالهجوم على السلطة الفلسطينية، بكل الهراء الذي يردده اليمين الإسرائيلي منذ سنوات، من أنها تدعم «الإرهابيين» بالمال، أو كما سماهم، متحدثاً باسم اليهود كما أسلفنا «قاتلي اليهود»، وتسمي شوارعها ومبانيها بأسمائهم، وأنها فاسدة ولا تجري انتخابات.. الخ. ثم تساءل ببراءة الأطفال المخلوطة بخبث السياسيين: ألم يكن لهم دولة في غزة؟
أعتقد أن تساؤله، وإن كان بصيغة استنكارية رافضة، إلا أنه يحيلنا إلى الملاحظة الخامسة، وهي عدم تطرقه نهائياً للضفة الغربية، ولا لخطة الضم التي تتحدث عنها الحكومة الإسرائيلية منذ مدة. وعدم التطرق هذا لا يعني تراجعاً بطبيعة الحال، ولا تفضيلاً لعدم إزعاج ترامب، بقدر ما هو تركيز للانتباه نحو غزة. فهناك، وكما حددت صفقة القرن منذ سنوات، ستكون الدولة التي سيوافق عليها، بل هو موافق سلفاً، ولا يريد إلا هندستها، جغرافياً وديموغرافياً، بما يلبي الاعتبارات الأمنية الإسرائيلية، والمصالح الاقتصادية الأميركية.
الملاحظة السادسة، هي وقوفه مطولاً عند الملف النووي الإيراني، واستعراضه لإنجازاته في إيران والعراق وسورية ولبنان ومع الحوثيين، وأن هذه الإنجازات ستؤدي إلى السلام كما يراه هو، وضرب سورية مثالاً، ثم طالب لبنان بالدخول بمفاوضات مشابهة. اللافت أيضاً توجهه بخطاب خاص للشعب الإيراني وعنه، وما سيكون عليه المستقبل المشترك بين الشعبين، الإيراني والإسرائيلي.
لكنه عند الحديث عن غزة هدد «بمحو نظام حماس الإرهابي» بلغة واثقة ونبرة حادة. وإذا أخذنا بالاعتبار أن هذا التهديد جاء مباشرة بعد تحذير الأوروبيين من الإرهاب وتذكيرهم بدور «جنوده الشجعان» في حمايتهم منه، ثم انتقاله بعد ذلك لتوجيه التهم بالإرهاب للفلسطينيين عموماً، أو لـ90% منهم كما قال، لأنهم احتفلوا، حسب رأيه، بالسابع من أكتوبر/ تشرين الأول والحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، فذلك يعني، أولاً، أن «حماس» خارج معادلة المحور الإيراني، بل هو يضمها إلى «الإرهاب الداعشي» الذي يؤرق أوروبا، وبالتالي فالانتصار عليها لا يؤدي إلى السلام بالضرورة. وهو يعني، ثانياً، أن حربه ليست مع «حماس» ولا نظامها، بل مع الشعب الفلسطيني برمّته.
الكثير من الملاحظات الأخرى التي لا يتسع لها المكان، من قبيل استخدام المسيحيين والدروز بطريقة ابتزازية تثير الغثيان، واستخدام اليافطات التوضيحية المدرسية، ووسائل الإيضاح المضحكة، ومنطق «اختر الإجابة الصحيحة»، وبث الخطاب عبر مكبرات الصوت في غزة، والوعود للعرب، إن هم طبّعوا، بالتكنولوجيا ومنتجاتها.
النتيجة إذاً هي خطاب مهزوز يوحي ببداية السقوط، ولم يكن بالإمكان أن يخرج بهذه الصورة، لولا الاعترافات الأخيرة بدولة فلسطين، وتحديداً من دول أوروبية وغربية. هذا الغرب الذي علينا أن نتعامل معه بشكل جاد أكثر، وبمنطق السياسة والمصالح العميقة لا بالمنطق السطحي للشتائم، ومنطق «كله عند العرب فقوس».