اخبار

مسيحيو غزة.. بين رماد الحرب ونور الصمود

 في الخامس من آذار الجاري، احتفلت الكنائس الكاثوليكية في العالم بـ”أربعاء الرماد”، الذي يمثل بداية زمن الصوم الكبير (الأربعيني)، ويرسم فيه الكاهن إشارة الصليب بالرماد على جباه المصلين، مرددا “اذكر يا إنسان أنك تراب وإلى التراب تعود”.

وبينما يتحضر المسيحيون في مختلف أنحاء العالم لاستقبال عيد الفصح المجيد الشهر المقبل، من خلال الصوم والصلاة والصدقة، يعاني الفلسطينيون المسيحيون في قطاع غزة، كغيرهم من أبناء شعبنا في القطاع، من آثار حرب الإبادة المدمرة التي شنها الاحتلال الإسرائيلي منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، والتي خلفت أكثر من 160 ألف شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 14 ألف مفقود، ودمارا غير مسبوق في مختلف مناحي الحياة.

وتشير المعطيات إلى أن عدد المواطنين المسيحيين في قطاع غزة تقلص إلى نحو 700 مواطن خلال حرب الإبادة، بعد أن كان عددهم يصل إلى نحو 1100 مواطن قبل بداية الحرب. واضطر العديد منهم للنزوح من منازلهم إلى كنيسة العائلة المقدسة للاتين وكنيسة القديس بورفيريوس للروم الأرثوذكس والكنيسة المعمدانية داخل مستشفى الأهلي العربي في مدينة غزة، إلا أن الاحتلال الإسرائيلي استهدف أيضا بالقصف والتدمير الكنائس الثلاث، ما أدى إلى استشهاد وإصابة عدد من النازحين.

جورج أنطون، رئيس لجنة الطوارئ في كنيسة العائلة المقدسة ومدير العمليات في مؤسسة كاريتاس القدس – فرع غزة، يقول لـ”وفا”: “تعرضت الكنيسة لعدة اعتداءات إسرائيلية خلال الحرب الأخيرة، ما أدى إلى أضرار جسيمة في المبنى. وفي 16 كانون الأول/ ديسمبر 2023، استشهدت زوجة عمي ناهِدة خليل أنطون وابنتها سمر كمال أنطون داخل حرم الكنيسة جراء إطلاق نار من قناص إسرائيلي. كما أصيب سبعة أشخاص أثناء محاولتهم إنقاذهما. إضافة إلى ذلك، قُصفت كنيسة القديس بورفيريوس في 19 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ما أدى إلى استشهاد 18 شخصًا، بينهم عشرة من عائلة واحدة”.

ويضيف أنطون: “الكنيسة لم تتوقف عن العمل منذ اليوم الأول للحرب، حيث أوت ما يقارب 700 نازح، وما زالت تؤوي 450 نازحا حتى اليوم. إلى جانب ذلك، تعرضت دار المحبة والسلام التابعة للكنيسة، والتي تؤوي أطفالًا وكبار سن من ذوي الاحتياجات الخاصة، للقصف، ما ألحق أضرارًا جسيمة بها”.

دور الكنيسة الكاثوليكية في الإغاثة الإنسانية

وفي ظل الأزمة الإنسانية المتفاقمة التي خلفتها الحرب، لعبت كنيسة العائلة المقدسة، بالتعاون مع مؤسسة كاريتاس القدس، دورًا أساسيًا في تقديم الدعم الإنساني والإغاثي للمجتمع، حيث شملت الجهود: الإيواء والمساعدات الإنسانية، حيث استضافت مئات النازحين الذين فقدوا منازلهم، وعملت على توفير مساعدات غذائية ومياه نظيفة للنازحين والمحتاجين، وتقديم مساعدات مالية لدعم الأسر التي فقدت مصادر رزقها، إلى جانب توفير خدمات طبية عاجلة للمرضى والمصابين بالتعاون مع الفرق الطبية التابعة للكاريتاس ولجنة الصحة التابعة للجنة الطوارئ، ودعم المستشفيات المحلية بالأدوية والمعدات الطبية.

وخلال الحرب، زار بطريرك القدس للاتين، الكاردينال بيير باتيستا بيتسابالا قطاع غزة مرتين، الأولى في 16 أيار/ مايو 2024، حيث التقى بأبناء كنيسة العائلة المقدسة، ووقف على معاناتهم، خاصة أولئك الذين لجأوا إلى الكنيسة بعد تدمير منازلهم. كما ترأس قداسًا في الكنيسة، وزار كنيسة القديس بورفيريوس، متفقدًا الأضرار التي لحقت بها جراء قصف الاحتلال الإسرائيلي. والزيارة الثانية في 22 كانون الأول/ ديسمبر 2024، حيث ترأس قداس عيد الميلاد المجيد في كنيسة العائلة المقدسة، وأكد استمرار دعم الكنيسة لأبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة في هذه المحنة.

كما لم يتوقف بابا الفاتيكان فرنسيس عن التواصل بصورة دائمة مع راعي كنيسة العائلة المقدسة وأبناء الكنيسة خلال الحرب، لتعزيز صمودهم وبقائهم في أرض وطنهم.

دعم المجتمع المحلي خلال شهر رمضان

ورغم الأوضاع الصعبة، استمرت الكنيسة في دعم المجتمع المحلي، حيث وزعت طرودًا غذائية على العائلات خلال شهر رمضان المبارك، بالتعاون مع المؤسسات الشريكة.

كما نظّمت موائد رمضانية للعاملين في مجال التعليم، وأقامت إفطارات جماعية لتعزيز روح الإخاء والعيش المشترك بين أبناء الشعب الواحد. 

ويقول أنطون: “في غزة، نعيش مع إخوتنا المسلمين كعائلة واحدة. نحتفل معًا بالأعياد ونتشارك العادات والتقاليد، سواء في شهر رمضان أو خلال أعياد الميلاد. رغم الحرب، لا يزال لدينا الأمل في غدٍ أفضل”.

ويستذكر أنطون التحديات التي واجهها خلال الحرب ونزوحه مع زوجته نسرين وبناته ليلى وجولييت ونتالي بعد أن دمر الاحتلال منزله بالكامل، حيث اضطروا للعيش في غرفة صغيرة داخل الكنيسة.

ورغم الخطر، لم يتوقف عن العمل يومًا واحدًا، حيث كان يسعى ليل نهار لتأمين احتياجات النازحين، متحملًا مواقف خطيرة كادت تودي بحياته. 

ويضيف أنطون: “كان الخوف يسيطر على زوجتي وبناتي، خاصة مع تعرض الكنيسة نفسها للقصف. لكنني كنت مدفوعًا بإيماني وبواجبي الإنساني، كما أنني كنت أشعر بمسؤولية كبيرة تجاه النازحين الذين يعتمدون على الكنيسة في كل شيء”.

أما والداه، اللذان يعيشان في ألمانيا، فقد كانا قلقين عليه، لكنهما وقفا بجانبه، خاصة أن والده أحد ضباط الأمن الوطني الفلسطيني، وله تاريخ نضالي طويل في خدمة القضية الفلسطينية. 

خطط الكنيسة المستقبلية في غزة 

ورغم الدمار، تواصل الكنيسة جهودها لدعم المجتمع المحلي، حيث تخطط لـتوسيع الخدمات التعليمية عبر المدارس التابعة لها، وإنشاء مركز طبي جديد لتوفير الخدمات الصحية للمتضررين، وإقامة مخيمات للنازحين وتحسين أوضاعهم المعيشية، والاستمرار في توزيع المساعدات الإنسانية لعشرات الآلاف من الأسر المحتاجة.

ولطالما كان المسيحيون في فلسطين عامة، وفي غزة خاصة، جزءًا أصيلًا من النسيج الوطني الفلسطيني، حيث يرون في هذه الأرض هويتهم الدينية والتاريخية والوطنية. 

ويقول أنطون: “فلسطين ليست مجرد أرض مقدسة بالنسبة لنا، بل هي هويتنا. نحن هنا منذ قرون، وسنبقى هنا، نعيش مع إخوتنا المسلمين في نضال واحد من أجل الحرية والعدالة والسلام”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *