مزامير داود (الحلقة 28) الشيخ محمود إسماعيل الشريف.. دكتور التلاوة
كتبها وليد شاهين
القارئ المتمكن صاحب المقامات العالية
انحنى لموكبه أهالي ألبانيا.. وكرمه رئيس المالديف.. وأخبر نجله بموعد وفاته
قضى مسيرته مع النجوم الزاهرة.. وعاصر بعضـًا من الأسماء الرائدة.. لقَّبَهُ أهالى الشرقية بـ “دكتور التلاوة”.. ووصفه البعض بأن صوته قطعة من الذهب النفيس بين أصوات جيل الوسط.. فحين تسمعه تشعر وكأنك مازلت تعيش في عصر عمالقة القراءة الأوائل.. فتلاوته تَسْكُنُ إليها نَفْسُك.. وتتهادى معها مَشَاعِرُك.. يأخذك معه إلى السماء الصافية.. بتمكنه ومقاماته العالية.. ولم يكن هناك من عَجَبْ.. عندما انحنى إليه أهل ألبانيا بأدب.
إنه الشيخ “محمود إسماعيل الشريف” المولود يوم الخميس الموافق 17 يونيو عام 1943 بقرية الهجارسة مركز كفر صقر بمحافظة الشرقية، بدأ رحلته القرآنية فى المرحلة الابتدائية عندما استمع إلى عذوبة صوته ودقةِ أدائه فى إحدى حفلات المدرسة مأذون القرية الشيخ “حفني عبد الرحيم” والذى كان يعمل مدرساً بالمدرسة أيضاً، حيث لمس فى الطفل الصغير موهبة لا نظير لها بين الصغار والكبار فى قريته، فألحَّ على والده بضرورة إلحاقه بالكُتَّاب لحفظ القرآن الكريم.
استجاب الوالد لنصيحة مأذون القرية وألحق صغيره “محمود” بكتّاب الشيخ “عبد المقصود عبد السميع” وهو فى الثامنة من عمره، ومنه إلى الشيخ “السيد إبراهيم بدوى” والشيخ “عبد الله الحشماوي” الذي وجد فيه استعدادًا وقبولًا كبيرًا، حتى أتم الله عليه حفظ كتابة الكريم كاملاً ومجوداً برواية حفص عن عاصم فى ثلاث سنوات وقبل أن يتم الثانية عشرة من عمرة، ثم انتقل إلى الشيخ “محمد السيد الصغير” بقرية “أبو الشقوق” الذي بدأ يعلمه أسرار القراءات العشر، إلا أن المنية وافته فلم يكمل المشوار في كُتَّابِهِ.
ورغم صغر عمر الشيخ “محمود”، إلا أنه حظى بشهرة طيبة بين أبناء قريته والقرى المجاورة، فقد ذاع صيته وشهرته خاصة في قريته الهجارسة والقرى المجاورة، وبدأ فى إحياء بعض الحفلات، الأمر الذى أكسبه ثقة فى نفسه وقدرة على الانطلاق فى مضمار القراءة، خاصةً أنه كابد الكثير من المشاق أثناء سيره مترجلاً على قدميه يومياً من قرية لأخرى من أجل أن يحفظ آية قرآنية أو أن يتعلم قاعدة صوتية.
عُيِّن الشيخ “محمود إسماعيل الشريف” عام 1967 مقيم شعائر بمسجد عزبة البارى التابعة لقرية الرباعى المجاورة لقريته، وكان معه أحد العمال بالمسجد الذي شجعه على تجويد القرآن بالقراءات السبع، واتجه بعدها للشيخ “أحمد محمود حسنين” بعزبة السلاوى، ومن يومها بدأ فى إحياء الحفلات وذاع صيته على نطاق واسع فى محافظات الدلتا.
اعتاد الشيخ الاستماع والتعلم من كبار قٌرَّاء الرعيل الأول من رواد دولة التلاوة فى النصف الأول من القرن العشرين، وظل يدرب نفسه ويثقل موهبته، حتى منتصف السبعينيات، حيث قدم طلب الالتحاق بِرَكب الإذاعة المصرية لكنه رفض الدخول للجنة الاختبار لاعتقاده أنه لا يزال غير جاهز وفى حاجة إلى إثقال قدراته فى التجويد والأداء واستخدام المقامات الصوتية وكيفية توظيفها بما يتناسب مع هيبة القرآن الكريم وجلاله، حتى شعر بشئٍ من الرضا عن أدائه فتقدم أخيراً للجنة الاختبار تمهيداً لاعتماده بالإذاعة فى النصف الأخير من عام 1979، وبالفعل نال إعجاب اللجنة وتم إجازته قارئاً بالإذاعة والتليفزيون.
تميز الشيخ بتمكنه من القراءة ومقاماته العالية، وكانت أول مرة قرأ فيها على الهواء مباشرة فى رحاب مسجد السيدة زينب رضي الله عنها عام 1980، وأول ظهور له على شاشة التليفزيون كان في وفاة الرئيس السادات.
ارتبط الشيخ برباط وثيق وحُبٍ عميق مع الكثير من قراء جيله والجيل الذى سبقه، فكانوا يتبادلون القراءة بأخوةٍ مشهودة، وقلوبٍ على توحيد الله معقودة، وعلى رأسهم الشيخ أبو العينين شعيشع، والشيخ محمود على البنا، والشيخ أحمد محمد عامر، الذى كان له الفضل فى تأهيله وتدريبه وإعداده للإذاعة، وكان صديقًا وفيَّاً لإمام الدعاة “محمد متولي الشعرواى” وكان من أشد المحبين له.
أما جلسته الماتِعة وروضته اليانعة، فكانت في باحة منزله، حيث الإيمانُ على فطرته والمسكن على بساطته يتلو ويشجى ويرتل ويرتقى بآى الذكر الحكيم، وكان الشيخ رحمه الله يختم القرآن مرة كل ثلاثة أيام، وكان يطوف كل ليلةٍ يقرأ صورة البقرة كاملةً فى جنبات بيته.
تعرض الشيخ لصدمة أخذت منه مأخذها، وذلك عندما تلقى خبر وفاة فلذة كبده نجله الشاب “مصطفى” الذى لم يتجاوز الخامسة والعشرين من العمر، فكان الشيخ دائماً صابراً محتسباً، ومن قبله تأثر لفقدان والده الذى كان سبباً فى تكوينه الشخصى حتى أصبح فى دولة التلاوة فى مصر والعالم الإسلامى علماً من الأعلام، ولما لا؟!.. فوالده كان بالنسبة له قصة رائعة لا يكفيها كلام ولا تسطرها أقلام.
زار الشيخ أكثر من 40 دولة، فكان سفيرًا للقرآن فى عدة دول عربية وإفريقية وأجنبية، ومن المواقف المشهودة والعلامات المعهودة فى الصالحين، أن الشيخ “محمود الشريف” عندما زار دولة ألبانيا، كان أهالي المنطقة التى ينزل فيها ينحنون لموكبه عندما يمر في الشارع احتراماً وتقديراً ووقاراً لأهل القرآن، كما كان سفراء الدول الأخرى يستقبلونه استقبالاً رسمياً فى بلدانهم، وكان رئيس جمهورية جزر المالديف “مأمون عبد المقصود”، يحتفي به ويقابله ويكرمه شخصيًا، إلى جانب حرصه الشديد على حضور ومتابعة الليالي القرآنية التي كان الشيخ يحيها هناك طوال شهر رمضان المبارك، كما أسلم على يديه العديد من أبناء الدول الأوروبية خاصة فى الولايات المتحدة الأمريكية تأثراً بتلاوته وحلاوة صوته.
رحل الشيخ “محمود إسماعيل الشريف” يوم الثلاثاء الموافق 14 أغسطس 2018 عن عمر ناهز 75 عامًا قضاها فى خدمة القرآن الكريم، بعد صراع مع المرض، حيث كان مصابًا بضعف في عضلة القلب.
ذكر نجله المهندس “محمد” أن والده فى الأسبوع الذى توفى فيه أخبره بأنه سيتوفى خلال أيام، مؤكداً أن الشيخ لم يتوقف عن ترديد الأذان وقراءة القرآن أثناء احتضاره إلى أن صعدت روحه الطاهرة إلى بارئها، كما أوصى بنيه أن يقوم على غسله المبتهل الشيخ عبد اللطيف العزب وهدان.. رحم الله شيخنا الجليل رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.
إخلاء مسؤولية إن موقع يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
“جميع الحقوق محفوظة لأصحابها”