محاولة لفهم ما يجري في السودان..محمد ياغي
لم يخضع السودان لحكم مدني منذ استقلاله العام ١٩٥٦ إلا لفترات محدودة. الأولى ولمدة سنتين بعد الاستقلال مباشرة العام وأطاح بها انقلاب عسكري بقيادة الفريق إبراهيم عبود.
الثانية بعد الثورة الشعبية العام ١٩٦٤ والتي أطاحت بعبود في نفس العام، حيث انقلب عليها قائد الجيش جعفر النميري العام ١٩٦٩.
والثالثة بعد الثورة الشعبية العام ١٩٨٥ التي أطاحت بالنميري والتي أدت الى انتخابات فازت بها حكومة بقيادة الصادق المهدي، زعيم حزب الأمة، انقلب عليها قائد الجيش عمر البشير العام ١٩٨٩ بالتحالف مع الجبهة الإسلامية القومية التي كان يتزعمها حسن الترابي.
الثورة الشعبية التي أطاحت بالبشير في نيسان العام ٢٠١٩ لم تتمكن من الاستيلاء على السلطة حيث سارع العسكر بالاستيلاء عليها وتأسيس مجلس انتقالي بقيادة عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش، ومحمد دقلو المعروف بـ «حميدتي» قائد قوات التدخل السريع.
منذ ثورة نيسان والى ما قبل أسبوع، كان الصراع بين العسكر والقوى المدنية التي تطالب باستلام الحكم، تخلل ذلك عدة مذابح أهمها مذبحة القيادة العامة في حزيران العام ٢٠١٩ والتي راح ضحيتها أكثر من ٣٠٠ مدني سوداني بعد فض قوات «حميدتي» لاعتصام القوى المدنية عند القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية.
السودان إذاً لم يتمتع بحكم مدني منذ استقلاله باستثناء عشر سنوات تقريباً في مجموعها، وكان خاضعاً فيما تبقى من الوقت لحكم العسكر في الخرطوم.
يقول أليكس دي فال الباحث المتخصص في الشأن السوداني، بأن هنالك ثلاث حقائق تحكم السودان:
الأولى أن العسكريين الذين يحكمون السودان يُسلِمون حروبهم لمتعهدين من ميليشيات قبلية يقومون بتشكيلها للقيام بالسيطرة على الأطراف خارج العاصمة، لأن الجيش النظامي السوداني ينحدر ضباطه من النخبة الاجتماعية السودانية، وهؤلاء يفضلون الحصول على الدبابات والطائرات لبناء قلعة منيعة لهم في الخرطوم، ولا يرغبون في خوض معارك بعيدة عنها.
لهذا بالطبع نتائج خطيرة، حيث انشقت الميليشيا التي شكلها الجيش النظامي لمحاربة انفصاليي الجنوب العام ٢٠٠٥ وانضمت لمتمردي الجنوب الذين وعدوها بعائدات مالية أكبر من دخل النفط، وبهذا فقدت السودان جنوبها ونفطها.
الثانية، وفقاً لدي فال فإن الولاءات السياسية والنفوذ السياسي في السودان يمكن دائماً شراؤهما بالمال.
أما الحقيقة الثالثة، فهي أن النخبة العسكرية السودانية حرصت على أن تكون التنمية محصورة في الخرطوم والمناطق الملاصقة لها فقط، والتي تعرف بـ «مثلث حمدي» نسبة الى وزير المالية عبد الرحيم حمدي، الذي أصر في تسعينيات القرن الماضي على أن التنمية هي حق لهذه المنطقة الجغرافية لمكافأة النخب الموجودة فيها ولضمان ولائهم لسلطة البشير.
هذه الحقائق الثلاث تمكننا من فهم ما يجري من صراع بين الجيش النظامي وبين قوات الدعم السريع.
الجيش النظامي الذي يمثل النخب العسكرية في المركز اضطر للتعايش مع القادمين من الأطراف، وهم قوات الدعم السريع والتي أخذت تدريجياً تسيطر على كل ما هو موجود في الخرطوم من مؤسسات مدنية وأمنية.
قوات الدعم السريع بدأت كـ «ميليشيا» شكّلها عسكر الخرطوم من قبائل المحاميد العام ٢٠٠٣ – معروفه باسم «الجنجويد» – لمحاربة القبائل المتمردة في غرب السودان (درافور) وارتكبت خلال ذلك العديد من الجرائم.
عندما حاول نظام البشير إدارة ظهره لها بعد انكشاف جرائمها للعالم العام ٢٠٠٧، تمردت الجنجويد عليه وبدأت مفاوضات للتحالف مع القبائل التي كانت تحاربها. لمنعها من ذلك، قام البشير بإغداق الأموال عليها ومنح قادتها رتب عسكرية في الجيش وأصبح قائدها محمد دقلو «حميدتي» عميداً في الجيش. واستخدم البشير القوات الجديدة في حرب خاضها بالوكالة نيابة عن العقيد القذافي في تشاد العام ٢٠٠٨.
البشير الذي كان يخشى انقلاب الجيش عليه، حول هذه الميليشيا الى قوات الدعم السريع العام ٢٠١٣ وخصها بحمايته وكان يسميها «حمايتي» ولم يبخل عليها بالأموال والسلاح.
حميدتي الذي كان يتاجر بالإبل قبل أن يثبت مهارته كقائد للجنجويد في حرب درافور وبعدها في تشاد، تمكن من السيطرة على جزء كبير من مناجم الذهب في جبل عامر في دارفور العام ٢٠٠٨ والذي شكل المصدر الرئيس لدخل السودان بعد أن فقد النفط بانفصال الجنوب عنه.
عائدات الذهب التي كانت تذهب الى حميدتي استفاد منها في تشكيل شركة الجنيد، وهذه الشركة أنشأت شركات أخرى للعمل في قطاعات عديدة مثل النقل والتعدين والاتصالات، وأصبح حميدتي يجلس على مئات الملايين من الدولارات التي مكنته من شراء الولاءات السياسية في الخرطوم ومن توسيع أعداد قوات الدعم السريع لتتجاوز المائة ألف عنصر.
هذه الأموال ازدادت أيضا بفضل الخدمات التي قدمتها قوات الدعم السريع لكل من الامارات العربية والاتحاد الأوروبي: الأولى أغدقت عليها الأموال لإرسال فرق منها لدعم حربها في اليمن وليبيا، والثانية منحتها ٢٠٠ مليون يورو لمنع الهجرة من السودان لأوروبا.
ازدياد نفوذ الأطراف، القادمون من الحدود التشادية (قوات الدعم السريع) على حساب سيطرة المركز في الخرطوم (الجيش النظامي)، ما كان للنخبة العسكرية في الخرطوم أن تقبل به، وكان الصراع بينهما سيتفجر في أي لحظة، لكن الثورة الشعبية التي حدثت العام ٢٠١٩ أجلت هذا الانفجار.
التدخل العربي والغربي الخارجي لمنع الثورة من تحقيق أهدافها بإزالة حكم العسكر ممثلاً بالجيش النظامي وقوات الدعم السريع، فرض على الطرفين التحالف المؤقت.
لكن قوات الدعم السريع استمرت في توسيع نفوذها في الخرطوم بالأموال التي بين يديها وأصبح الجيش النظامي على قناعة بأن استمرار الحال بهذه الطريقة سيؤدي الى خسارته في النهاية وانفراد قوات الدعم السريع بالحكم، وكان ما كان من حرب نشهدها الآن بين الجنرالات.
الحرب إذاً هي بين الهامش المُظلِم الذي شق طريقه من الحدود التشادية الى الشراكة بالسلطة في الخرطوم عبر القتل والنهب والارتزاق وتوزيع الرشاوي، وبين النخبة العسكرية الظالمة والفاسدة التي استأثرت بموارد السودان عبر عقود من الزمن دون أن تسمح للتنمية بالخروج من الخرطوم لتصل الى الأطراف الجائعة.
هنا بالتأكيد يمكن القول بأن المجرمين من الطرفين، لا يمانعون بالطبع تحالفاً مع إسرائيل، لأن هذا يقربهما من الولايات المتحدة ويغدق عليهما الشرعية الدولية والمزيد من الأموال.
ربما لذلك في الحرب بينهم خير للسودانيين، لعلها تضعف كليهما، وتسمح للقوى المدنية باستلام الحكم.