بألم شديد قال صديقي المستشار وعزيز القوم كما كل أبناء غزة الأعزاء أنه لم يأكل الخبز منذ أسبوع، ويحاول أن يضع في معدته أي شيء لتخفيف وجع الجوع بعد وجعه بفقدان ابنه خريج كلية القانون، أما أختي التي فقدت ابنها أيضاً، فهي لا تستطيع الحصول على الدقيق الذي يتم سرقته وعرضه في الأسواق بأسعار أكبر من قدرة العائلات، وهكذا وقعنا بين عدو مجرم لا يتورع عن استخدام أبشع الوسائل وأشدها قذارة وانحطاطاً ضد شعب أعزل، وبين تنظيم مغامر لم يدرك بعد فداحة ما تسبب به نتيجة مغامراته.
هل تستطيع حماس حماية شعبنا؟ الواقع كان أصدق من كل الشعارات، هل تستطيع حماس طرد إسرائيل من غزة وإزاحة الخرائط المعروضة في المفاوضات؟ فتلك أكبر كثيراً من طاقتها وقدراتها وأزمتها أنها صورت نفسها أمام المواطن أنها تستطيع، هل تستطيع حماس إنهاء هذه المقتلة؟ بالتأكيد ليس لديها من القوة حتى يمكن ذلك. وبالتالي ليس من المصادفة أن تستمر المذبحة لأكثر من واحد وعشرين شهراً دون قدرة على وقفها.
لن تقبل اسرائيل بوجود حماس ولا بسلاحها، هل في هذا ما يساعدنا على فهم حقيقة الحدث وتداعياته والخلاص منه؟ فالأمر يتعلق بالفكرة الوجودية نفسها لدولة مدججة بالأسلحة تعيش بسيكلولوجية الخوف، وحدث ما يصدق ذعرها والخوف من طوفان آخر ولو بعد حين، يعني أن حماس تقاتل بمعادلة صفرية في ظل خلل فادح بموازين القوى، ما يعني انتحاراً لها وللشعب، وهذا ما حدث ويحدث.
لماذا تتلكأ صفقة الأسرى أو تهدئة الستين يوماً؟ هناك طرفان أحدهما يملك القوة للقتل والسحق والضغط، يتصرف كمنتصر ليس في غزة وحدها، ولأنه يسيطر على الميدان، وطرف آخر ممثلاً بحركة حماس لا تريد أن تسلم بنتائج الميدان التي لم تمكنها لا من رد العدوان ولا حماية شعبها ولا شيء، فما الحل إذن؟ هدنة تشبه ما طرحه ويتكوف قبل أربعة أشهر، كان يجب أن ندرك متأخراً بفارق سبعة آلاف شهيد أن ليس لدينا ممكنات تحسينها في ظل شعب يتضور جوعاً، يتكالب عليه الاحتلال والتجار والمرابون والقتلة والنصابون والكاذبون، لا يعرف من أين ستأتيه الضربة الأخيرة، ومع تكاتف كل هؤلاء وصل الشعب حالة الاستسلام.
لا يُخفي نتنياهو أنه إذا ما نجحت صفقة الستين يوماً سيعود للحرب لتفكيك حماس وسلاحها، أي سيستمر في القتل والإبادة وزيادة السيطرة على القطاع، وحين يعود لن تستطيع حماس التصدي له، ينتهي خلالها حكم الحركة الذي كان يجب أن تعلنه مبكراً، وبعدها يحتل القطاع أو كما تقول يغرق الاحتلال في رمال غزة، تبدأ المقاومة بتوجيه ضرباتها للاحتلال وقد يستمر هذا عقداً أو أكثر، حينها يستنزف الاحتلال ولا يعود قادراً على الاستمرار بالسيطرة على غزة، فيرحل إلى خارج حدوده وتعود حركة حماس منتصرة تحكم غزة، لكن الاحتلال يستمر في محاصرة غزة لعقود، وهكذا في كوميديا سوداء متصلة.
هل هذا سيناريو واقعي؟ ربما يكون الأكثر تفاؤلاً بالنسبة لحركة ارتكبت ما يكفي من المغامرات، وفي كل مرة تقول لم نكن نعرف النتائج، وأن الامور خرجت عن سيطرتنا، بدءاً من مغامرة السيطرة على غزة والتسبب بحصارها مع وعد مزمن بفك الحصار، إلى أن تفكك المجتمع مروراً بمغامرة السابع من أكتوبر التي ضربت إسرائيل، لكنها أكملت تدمير ما تبقى من بنية مجتمع لعقود قادمة، وتنتهي باستدعاء الإسرائيلي لاحتلال غزة بعد سحق القطاع وتدميره.
لا يقال هذا لمحاكمة حماس أو انتقادها، فقد فات الأوان على هذا ولم يعد مجدياً، فالكابوس تحقق والكارثة تمت والشعب هائم على وجهه في الخيام والشوارع، بعد أن هُدّمت بيوته، وهو يحتضن حزنه بعد أن فقد الأحبة، يتوق لكسرة خبز ولا يجدها، فحماس أصدرت على نفسها حكم التاريخ ولا يفيد الاستئناف عليه، لا تجميله بالشعارات أو بالكلام، أو لا يزيده مراجعات أو ملاحظات، فهذا تاريخ يتحرك للأمام ولا ينتظر من يخطئ الحسابات دوماً، فما بالنا حين يكرر الأخطاء بعمى شديد، بل هذا مهم لمعرفة أين تقف اللحظة، وما هي ممكنات قوتها وضعفها، وهل يمكن اختصار رحلة الآلام أم حُكم على الغزيين استمرار النزيف حتى الموت، نتاج قلة حيلة وجهل حسابات من يصر على الاستمرار وكأن شيئاً لم يكن، وكأنه لم يستدع لهم كل هذا الخراب؟
أما الفرصة التي وفرتها حماس للخراب الإقليمي فأشد وطأة، وتصيب المراقب بالحزن على ما حدث لحزب الله وإيران وسورية. فلسطينياً أمام مجاعة الأهل ماذا ينتظر غزة؟ وهل تعتقد الحركة الفلسطينية أن ما لم تحققه بمائتي أسير ستحققه بعشرات الأسرى؟ إذا كانت تعتقد ذلك فهذا يعني مزيداً من خساراتنا، لأن هناك قراراً إسرائيلياً وأميركياً وأوروبياً وعربياً وبعضه فلسطيني، يضاف له الفئة الأكبر من الغزيين بإنهاء وجود حماس وسلاحها، فعلى ماذا تراهن لمواجهة ذلك؟ محور المقاومة؟ خرج جريحاً من المعادلة…. الشعب؟ أضعف وأكثر هشاشةً، فهو على حافة الحياة، ولم يعد دمه ولا موته يؤثر أو يشكل عامل ضغط لا دولياً ولا عربياً ولا اسلامياً على إسرائيل لوقف الحرب، هكذا قالت التجربة الطويلة، ولم يبق سوى أن تنسحب حماس من المشهد تراجع نفسها. فالوقت من دم ومن أمعاء أكثر قسوةً ومن موت بالآلاف بلا حيلة.. كلام صعب لكن يجب أن يُقال …!