مقدمة الكتاب.. 

“نكتب لا لنُخلّد الحكاية، بل لنحفظ ملامح الذين لم يمهلهم القصف ليحكوا.” 
– حكيم الزمان

لم يكن أحدٌ يتوقّع أن تطول ليالي الحرب على قطاع غزة، وأن تتجاوز في ويلاتها وأوجاعها هذه الشهور الطويلة، المليئة بسياسات القتل والتجويع والحصار. كنتُ قبل اندلاع الحرب بشهرٍ واحد في زيارةٍ إلى جنوب أفريقيا للمشاركة في ورشةٍ علمية حول تجربة النضال التي خاضها السود للتخلّص من نظام الفصل العنصري (الأبارتايد)، بهدف الاستفادة من هذه التجربة ومحاكاتها فلسطينيًا، من خلال الاستماع إلى رجالات الصف الأول الذين صنعوا لبلادهم ملحمة الاستقلال وبناء النظام الديمقراطي. وقد كان الزعيم نيلسون مانديلا (رحمه الله) هو القائد الذي قاد البلاد بحكمته نحو الحرية والازدهار.

لقد تعلّمتُ الكثير ممن التقينا بهم من قيادات السود والبيض (الأفريكانوس)، وكنتُ – مع الإخوة الفلسطينيين الذين شاركوني هذه الورشة – نطمح إلى البحث عن نقاط التشابه والمشترك بين تجربتنا وتجربتهم، وتطبيق ما يصلح منها لإثراء تجربتنا وتوجهاتنا السياسية في الساحة الفلسطينية. وللأسف، وبعد وصولي إلى القاهرة قادمًا من أبو ظبي بيومٍ واحد فقط، اندلعت معركة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر. كنتُ أتابع تفاصيلها مع بواكير الصباح بمزيجٍ من النشوة والابتهاج، المصحوب بالخوف والقلق الشديد. عندها قررتُ قطع رحلتي في مصر والعودة في اليوم التالي إلى قطاع غزة.

في اليوم الذي أعقب وصولي إلى رفح – حيث تقيم عائلتي – رأيتُ الهلع مرتسمًا على كلّ الوجوه، ثم جاءت الصدمة بموجات النزوح الكبيرة من شمال القطاع، خصوصًا من بيت حانون وجباليا، ثم من حي النصر والشاطئ بمدينة غزة. جلستُ أفكّر: ماذا يمكن أن نفعل أكثر من فتح بيوتنا وتقاسم ما نملك؟ كلّ يومٍ كان يصل إلينا نازحون جدد، حتى تجاوز العدد كلَّ ما هو متاح من أماكن لاستقبالهم. كان علينا أن نوفر لهم الطعام والمأوى الآمن، وأن نخفف من آلامهم قدر المستطاع.

ومن هنا، شعرتُ بأن مسؤوليتي الدينية والأخلاقية والوطنية تفرض عليَّ التحرّك سريعًا لإغاثة هؤلاء النازحين. ففتحنا مخيمًا و“تكيّة” لتقديم الطعام لكلّ من شرّدته وحشية القصف وآلة الموت الإسرائيلية، وذلك بدعمٍ مشكور من مؤسسات دولية كهيئة الإغاثة الإنسانية التركية (IHH)، واللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC)، ومؤسسة “الفارس الشهم 3” الإماراتية، فضلًا عن مساهمات الخيرين من الأصدقاء الذين جمعتني بهم سنوات الدراسة والعمل في الولايات المتحدة الأمريكية. وبفضل هؤلاء جميعًا، استطعنا مواصلة تقديم وجبات الطعام اليومية، ووسعنا نطاق التوزيع ليشمل كلّ من جاورنا من خيام النازحين.

ولسبعة أشهر متواصلة، ظل عملي قائمًا في خدمة هؤلاء النازحين في حي تل السلطان جنوب غرب مدينة رفح. وفجأة، وبتحذيرٍ إسرائيلي عاجل، طُلب إلينا إخلاء الحي إلى منطقة المواصي المحاذية للبحر. غادرنا بعد أن أصابت قذيفةٌ البيتَ المجاورَ فأحرقته، وتطايرت شظاياها إلى داخل بيتنا. خرجنا من الحي كآخر المغادرين، واتجهنا إلى قطعة أرضٍ يملكها أخي في تلك المواصي بخانيونس، حيث كانت الخيام تعج بالمكان بعشوائيةٍ لا تخطئها العين. وهناك أنشأنا “تكيّة” متواضعة في المخيم الجديد، وبدأنا رحلة السهر على خدمة أهلنا وأقربائنا ومن جاورونا الخيام والألم.

وفي ظل هذه الأجواء القاسية من المعاناة، كنت أكتب مقالاتي وأنشر تغريداتي، وكلّها كانت صدى لمظلومية كنا نعيشها؛ لإبادةٍ جماعية وتطهيرٍ عرقي من جهة، وما يجري في عالم السياسة والمفاوضات من جهة أخرى. كثيرٌ من هذه المقالات وُلد من رحم لحظاتٍ موجعة، خطّها قلمٌ مصدوم مما حدث، نتيجةً لسوء تقديرٍ وتجاهلٍ لحساب العواقب والتداعيات.

يأتي هذا الكتاب ليالي الصدمة والذهول كتسجيلٍ لسردية وقائع وقراءةٍ لظروفها الحساسة، حيث كان قلمي انعكاسًا لمدى تأثري بها، ولما شعرتُ بأنه واجب النصح لإخواني في حركة حماس، باعتباري شخصيةً تبوأت موقعًا رسميًا وقياديًا يمنح كلماتي مكانًا يستحق النظر والنقاش. كنت أكتب من قلب غزة، بقلمٍ من شواظ، أعايش وجع الناس، وأصغي لِحسرات قلوبهم ودموعهم التي لا تجف لفقدان فلذات الأكباد أو الآباء والأمهات والإخوة والأحباب.

هذا الكتاب جزءٌ من سجلّ الذكريات؛ فقد بدأتُ منذ الأيام الأولى للنزوح بتوثيق روايات كثيرين منهم، أملًا في أن نخطّ “التغريبة الفلسطينية الثانية” بلسان أهلها، لا عبر رواياتٍ منقولة قد يعتريها الشك. كان الواجب يفرض عليَّ أن أكتب وأنشر، لأنني أكتب من وسط الميدان، مما يمنح الكلمات روحًا ونبضًا يشعر به كلّ من يتابع ما يجري من بعيد.

وفي الختام… إن هذا الكتاب ليس أكثر من فصلٍ في رواية النكبة الثانية الكبرى. وقديمًا قالوا: “ما من أمةٍ كتبت تاريخها بالدم، إلا تركت للإنسانية درسًا لا يمحوه الزمن.” ومن باب الوفاء وعرفان الجميل، أتوجه بالشكر الجزيل إلى كلّ الصحف والمواقع الإخبارية التي فتحت صفحاتها وأعمدتها لاحتضان ما نكتب، في مساحةٍ تحترم الرأي والرأي الآخر.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
– المستشار د. أحمد يوسف

شاركها.