“فضيحة أمنية” في تل أبيب… هندسة وعي الإسرائيليين بفبركة أكاذيب ضد “حماس”
من المنتظر أن ترفع محكمة في إسرائيل، اليوم الأحد، أمر حظر النشر عن “الفضيحة الإسرائيلية المناوبة”، المعروفة بـ“القضية الأمنية”، وبموجبها، وفقًا للشبهات الكثيرة، قام رئيس حكومتها ومساعدوه بفبركة أخبار كاذبة، وتزوير مستندات سرية، وتغذية (تعمية) وسائل إعلام دولية، وذلك بهدف هندسة وعي الإسرائيليين، وتسويق روايته بأن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) هي الرافضة لـ”الصفقة”، والراغبة في إطالة أمد الحرب على غزة.
وكانت الشرطة الإسرائيلية، بالتعاون مع “الشاباك”، قد اعتقلت، قبل أيام، عددًا من الإسرائيليين، من بينهم مساعد مقرّب من نتنياهو، ما زال اسمه ممنوعًا من النشر.
وفي المقابل، ينكر مكتب رئاسة الوزراء الإسرائيلية أي علاقة بتسريب مستندات سرية، وبالموظف المسرّب، ويقول إنه لم يعمل فيها ولم يتقاضَ أي راتب منها، علمًا أن هناك قرائن كثيرة تُظهر أنه عمل مع نتنياهو، وشوهد عشرات المرات معه، بل شارك في اجتماعات سرية، وكان يدخل مواقع حساسة تعتبر “قدس الأقداس” الإسرائيلي.
وستطلب النيابة العامة من محكمة تمديد اعتقالهم، اليوم، بشبهة تسريب مستندات سريّة جدًا بشكل غير قانوني لوسائل إعلام دولية نشرت، عادة، مضامين تصبّ الماء على طاحونة نتنياهو الدعائية، وتغذّي “ماكنة السمّ” الخاصة بنتنياهو، والهدف هندسة وعي الإسرائيليين، وإلقاء الكرة في ملعب “حماس” بكل ما يتعلّق بنهاية الحرب والصفقة العالقة.
نشر وتزوير مستندات سريّة
وحسب ما تسمح به الرقابة العسكرية الإسرائيلية حتى الآن، فقد تمّ تسريب مستندات سريّة، ونشر معلومات في وسائل إعلام دولية، مثل صحيفة “جويش كرونيكال” البريطانية، على لسان مصادر أمنية في إسرائيل، خلال الشهور الأخيرة، وكأنه لم ينج من المحتجزين في غزة سوى 20 شخصًا، أو أنه لن يكون ممكنًا إنقاذهم يومًا بسبب استخدامهم “درعًا بشريًا” من قبل قائد “حماس” يحيى السنوار، الذي استشهد لاحقًا في ميدان المعركة دون أي رهينة إسرائيلية، بخلاف مزاعم الاحتلال.
وفي 02.09.2024، وخلال ما عُرف بـ “خطاب محور فيلادلفيا”، استعرضَ نتنياهو قصاصة ورق قيل عنها إنها كُتبت على يد أحد قادة “حماس” في غزة، وفيها “إستراتيجية حرب نفسية ضد إسرائيل”. والآن يتضح أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لم تعرف من كتبها، وأن خط اليد فيها لا يشبه خطوط أيدي أيّ من قادة “حماس” المعروفين.
وفي 05.09.2024، أجرى نتنياهو مقابلة مع شبكة “فوكس نيوز” الأمريكية، قال فيها إن السيطرة على محور “صلاح الدين” (فيلادلفيا) تمنع تهريب المخطوفين لإيران واليمن.
في التزامن، نشرت صحيفة “جويش كرونيكال” البريطانية تقريرًا للصحفي الإسرائيلي إيلون بيري، على أساس “مستندات” أمنية إسرائيلية تؤيد مزاعم نتنياهو حول خطة السنوار السرّية لـ “تهريب المخطوفين لإيران”.
حرب مفتوحة
وطبقًا لما يمكن نشره الآن، فقد نشرت صحيفة “بيلد” الألمانية، المعروفة بخطها المساند لنتنياهو وحكومته، “مستندات السنوار”، وهي عبارة عن توجيهات مزعومة لقائد “حماس” يحيى السنوار حول كيفية إدارة المفاوضات كي تبقى بلا نتيجة، وتتيح إطالة الحرب، ومعاناة الطرفين دون حدود.
ويتكاتب مع ذلك بشكل رسمي كاريكاتير ساخر في صحيفة “يديعوت أحرونوت”، اليوم، تظهر فيه سارة نتنياهو تحتسي قهوة الصباح، وإلى جانبها زوجها وهو يقرأ صحيفة “يديعوت أحرونوت” معنونة بعنوان رئيسي يقول: “قضية أمنية خطيرة في مكتب رئيس الوزراء”، وهو من جهته يقول: “أنا لا أصدق ذلك طالما لم يُنشر في صحيفة بيلد”.
وفي 08.09.2024، أي بعد يومين من نشر صحيفة “بيلد”، تطرّق نتنياهو لتقريرها المذكور، فقال، خلال اجتماع للحكومة: “كشفت، في نهاية الأسبوع، خطة عمل “حماس”، وهدفها زرع الفرقى بيننا، وتمزيقنا من الداخل (رسالة مبطنة تعني: لا تتظاهروا أيها الإسرائيليون)، إدارة حرب نفسية ضدنا، وضد عائلات المخطوفين، إنتاج ضغط سياسي داخلي وخارجي على إسرائيل، مواصلة الحرب حتى إلحاق الهزيمة بإسرائيل”.
وفي 09.09.2024، نشر محرر الشؤون الاستخباراتية في صحيفة “يديعوت أحرونوت” (ومراسل “نيويورك تايمز”) رونين بيرغمان مقالاً قال فيه إن تقرير “جويش كرونيكال” حول تهريب المخطوفين لإيران عبر “فيلادلفيا” كاذب. وتابع: “لا توجد وثيقة كهذه”.
كما أوضحت “يديعوت أحرونوت” أن المستند مشوّه ومزوّر ونصه كاذب ويصب الماء على طاحونة دعاية نتنياهو.
بعد تسريب المستندات السرية هذه وغيرها، فتح الجيش الإسرائيلي، قبل أسابيع، تحقيقاً لفحص السؤال كيف خرجت هذه من المنظومات المعلوماتية الأمنية السرية، وما لبث أن دخل الشاباك والشرطة على خط التحقيقات.
في اليوم التالي، 10.09.2024، نشرت “يديعوت أحرونوت” نبأ عن اجتماع سارة نتنياهو بعائلات المخطوفين، قالت خلاله: “لا خيار إلا السيطرة على فيلادلفيا… فهناك أنباء عن تهريبهم لإيران” (جويش كرونيكال).
وغداة ذلك، في 11.09.2024، كشف رونين بيرغمان، في “يديعوت أحرونوت”، أن ما نشرته صحيفة “بيلد” لا قيمة كبيرة له، وأن الحديث يدور عن مجرد اجتهاد أو رأي لأحد قادة “حماس” في الطبقة المتوسطة فيها، ولا علاقة للسنوار بالقصاصة الورقية المذكورة، موضحاً أن مواقف “حماس” في القصاصة الأصلية أكثر اعتدالاً من تلك التي عرضتها “حماس”، ومتساهلة أكثر مما عُرض في “بيلد”.
وضمن عملية التضليل، ومحاولة المستوى السياسي النيل من هيبة ومكانة وشعبية المؤسسة الأمنية، تم تسريب “مستند سري” يستنتج منه أن رئيس الموساد يؤيد السماح للغزيين من شمال القطاع بالعودة لديارهم، بعكس موقف نتنياهو وائتلافه الحاكم، وهذا جزء من السجال غير المتوقف بين المكوّنين السياسي والعسكري حول مسؤولية مَن أكبر عن السابع من أكتوبر.
تسريبات كثيرة
لا تقتصر الفضيحة الجديدة على نشر مستندات سرية فحسب، بل تزويرها وتشويهها وتضليل العالم بتفسيرات وتأويلات مرفقة كاذبة، وهذه أيضاً وفق العرف الإسرائيلي مخالفة أمنية. وعادة عندما تُحوّل مستندات لصحيفة محلية أو دولية، ينبغي أن تمر بمسيرة إجراءات يصادق عليها من قبل جهات حكومية رسمية، بما فيها الرقابة العسكرية، وهذا لم يحدث في التسريبات الكثيرة المذكورة.
ماكنة نثر السموم
وما ورد أعلاه هو رأس جبل جليدي سيُكشف عنه اليوم، على ما يبدو، بحال استجابت المحكمة لطلب عدة صحف عبرية تطالب برفع حظر النشر، ويتضح، من الآن، أن تسريب وإرسال مواد أمنية سريّة بواسطة رسل ومبعوثين، وليس بالطرق الإلكترونية، ويبدو أن هذه محاولة لمنع اكتشاف هوية المسرب، تحاشيًا للفضيحة والمحاكمة.
وهذا يدفع للترجيح بأن نتنياهو سينجح هذه المرة أيضًا من الإفلات من المسؤولية، لكن الكشف عن الصورة البشعة، بعد رفع حظر النشر، من شأنه أن يغذي الاحتجاجات والمعارضة لنتنياهو وحكومته بطاقات جديدة، فالشبهات خطيرة ومقزّزة، حتى وإن عدمت عملية برهنتها وتثبيتها قضائيًا، وهذا ما دفع محرر الشؤون الحزبية السياسية في صحيفة “هآرتس” يوسي فرطر للقول، اليوم، إن الفضيحة هذه تدلل على أن نتنياهو محاطٌ بـ “عائلة إجرامية”.
من جهته، قال زميله المحلل العسكري عاموس هارئيل إنها عملية هندسة وعي تستهدف الإسرائيليين من خلال نشر الأكاذيب والمواد المزوّرة، تخدم هدف نتنياهو بالتهرب من الصفقة.
ويضيف: “بعد نشر التفاصيل المحظورة، سنكون أمام صورة مروّعة لماكنة نثر السم”.
كذلك، هذا ما دفع عائلات المخطوفين للقول إن هناك حملة أو عملية هندسة وعي يقودها نتنياهو بواسطة أنباء كاذبة ضدها وضد المخطوفين بـ “وثائق سرية مزورة” هدفها توريط الصفقة وإبقائها عالقة.
ولا يمكن المبالغة في وصف خطورة هذه الفضيحة من عدة جهات، وبعدة مستويات، فالحديث يدور عن رئيس حكومة يشارك، حسب الشبهات، بالكذب والافتراء واختلاق أخبار كاذبة وتعمية صحفية وتضليل الإسرائيليين والفلسطينيين، مواصلة الحرب والنزيف والتنازل عن المحتجزين، والمخاطرة باتساع الحرب، عدا عن المتاجرة بمستندات سرية ومقدرات أمنية، كما فعل في فضيحة الغواصات التي باعتها ألمانيا للجيش المصري عام 2013 مقابل تشغيل قريبه المحامي دافيد شومرون، وحصوله على 13 مليون أجرة مقابل خدماته كمحام، وحسب الشبهات والتلميحات الغليظة كان لنتنياهو نصيب بذلك.