ثمانية عشر عامًا من الانقسام، وعامين من حرب الإبادة، لم تخلّف سوى الخذلان، والحصار، والموت، والدمار. فصائل كانت تُرفع راياتها بوصفها حامية للمشروع الوطني، باتت اليوم عبئًا ثقيلًا على شعبٍ أنهكته الكوارثوالمآسي، بدل أن تكون جزءًا من الحل، تحوّلت إلى أحد أسباب الأزمة الوطنية المستعصية.

فصائل شاخت وهرمت وتكلّست، بنفس الوجوه التي ملّها الناس، ولم تعد موضع ثقة أو أمل. لم تلتقط تحوّلات الإقليم والعالم، ولم تفهم حاجات الناس اليومية ولا آمالهم بالحرية والكرامة، وكل ما نراه منها اليوم شعاراتٌ شعبوية متكرّرة، لا علاقة لها بالبحث الجاد عن حلولٍ خلاقة أو مشروعٍ وطني تحرري جامع. على مدى عقدين من الزمن، لم تجلب هذه الفصائل وعلى رأسها حماس، سوى الحصار والخوف والخراب، وكأن كل همها الحكم والكراسي على حساب طموحات شعبها. غزة التي تمثلاليوم ترند عالمي، ورمز الصمود الأسطوري بحكم شعبها، أصبحت مدينة طاردة للحياة، يخطط شبابها وربما جل شعبها للفرار منها، بعد ان دُفنتفيها أحلامهم وتحولت إلى رماد.

اليوم،  ونحن نتابع ما يصدر عن لقاءات القاهرة التي تعقدها الفصائل مجددًا، نرى محاولة بائسة لإعادة إنتاج ذات الوجوه والخطاب نفسه، وكأن شيئًا لم يحدث. يتصرّفون وكأن سنتي الإبادة والدمار مجرد حادثٍ عابر يمكن تجاوزه ببيانٍ جديد أو لجنةٍ مشتركة، متناسية هذه الفصائل أن هناك طرف أمريكي أصبح سيد اللعبة، والفاعل الاساسي المحتمل. لكن الحقيقة أنّ شعبنا لم يعد يؤمن بهذه الشعارات، ولم يعد يأمن لمن أدار ظهره لآلامه ومعاناته.

المطلوب اليوم تغيير شامل وجذري في بنية النظام السياسي الفلسطيني، ينطلق من احتياجات الناس الحقيقية، ويعيد القرار إلى يد الشعب عبر انتخابات ديمقراطية، لا إلى أيدي الفصائل التي فقدت شرعيتها الأخلاقية والسياسية. الخروج من هذا المأزق لا يكون بإعادة إنتاج الفشل ذاته، أو بمنطق المحاصصة والذي قادنا إلى ما نحن فيه من وصاية، بل بإرادة جذرية تُعيد تعريف المعنى الحقيقي للوطنيةالفلسطينية، لا شرعية التاريخ ولا شرعية المقاومة، ولعلّ البداية تكون منخلال: إعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني في سياق البحث القائمعلى استعادة الإنسان الفلسطيني، لا فقط على إدارة الصراع، وأن فكرة التمثيل الفصائلي لم تعد مقبولة. وكذلك، تبنّي إستراتيجية مقاومة ذكية ومتصلة بالواقع وإفرازاته الجديدة (مقاومة سياسية ودبلوماسية وشعبية واقتصادية) وليست نتاج ردود فعل عاطفية غير محسوبة.

وفتح حوار فلسطيني–عربي جديد (بشقيه الرسمي والشعبي) يعيد بناء العلاقات على قاعدة المصالح والقيم المشتركة، لا على قاعدة التمويلوالمواقف المبنية على المجاملة.

وهنا لابد من التذكير، أنه لا يمكن لأي مشروع وطني جديد أن يتجاوز منظمة التحرير الفلسطينية بصفتها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ولا السلطة الوطنية الفلسطينية باعتبارها الإطار الإداري والسياسي الذي يمكن البناء عليه في أي تصور مستقبلي. إن الحاجة اليوم ليست إلى إلغاء هذه الأطر كما يريد البعض المؤدلج، بل إلى إعادة بنائها وتفعيلها على أسس جديدة تراعي التحولات التاريخية والسياسية التي مرّ بها الشعب الفلسطيني منذ تأسيس المنظمة وحتى اليوم.فإصلاح منظمة التحرير بصفتها الوطن المعنوي ليعاد إليها دورها الجامع والقيادي، وإعادة هيكلة السلطة لتصبح أداة لخدمة المشروع الوطني لا أداة سلطة داخلية، هما شرطان أساسيان لأي نهضة سياسية قادمة. إن هذه المؤسسات هي الركائز الرسمية التي يمكن أن تُبنى عليها وحدة القرار والتمثيل، بشرط أن تُعاد صياغتها بمشاركة حقيقية من جميع القوى والفئات، وبروحٍ ديمقراطية تعيد الثقة بين القيادة والشعب.

وفي هذا الإطار، فإن الخروج من المأزق الوطني يستلزم البدء بخطوات تتمثل بإجراءات الشفافية والمساءلة في إدارة المال العام والمساعدات، وربط أي تمويل بخطط وطنية، وإشراك المجتمع المدني والنقابات والجامعات والشباب في بلورة القرار السياسي، لأنهم من يدفعون ثمن الفشل. كما أن تبنّي خطاب وطني موحد يركّز على كرامة الإنسان وحقه في الحياة والحرية، بدل التناحر الإعلامي والفصائلي، هو خطوة ضرورية لتوحيد البوصلة الوطنية.

أما في غزة، فالأولوية اليوم هي إطلاق خطة إنقاذ وطني عاجلة بإدارة مستقلة ونزيهة تُعنى بإعادة الإعمار وتوفير فرص العمل والخدمات الأساسية، مع فصل الملف الإنساني عن الصراعات الحزبية حتى لا يبقى الشعب رهينة للابتزاز السياسي. ويجب إشراك المجتمع الدولي في إعادة البناء تحت إشراف وطني، لا عبر قنوات الفصائل فقط، لضمان نزاهة العمل واستدامته.

إنَّ الخلاص الوطني لن يأتي من شعاراتٍ قديمة ولا من قياداتٍ أنهكها الصراع على النفوذ، بل من مشروع وطني جديد يعيد الاعتبار للإنسان الفلسطيني، للكرامة والحرية قبل السلطة والمناصب. لقد تغيّر الواقع، وتبدّلت موازين القوى، وشعبنا يريد من يقوده إلى الحياة لا إلى المزيد من المقابر. فلسطين أكبر من الفصائل… وأعظم من الذي صنع ورسخ الانقسام.

شاركها.