بين خيام النزوح، وركام المدن المدمّرة، والأسئلة التي يطرحها الصحفيون الأجانب والنازحون على حدّ سواء، يطفو سؤال واحد بإلحاح: ماذا بعد الحرب؟ وما مستقبل قطاع غزة في ظل مخاوف التهجير القسري، وتضارب المبادرات الدولية، والغموض الذي يلفّ ما يُسمّى بـ«اليوم التالي»؟

منذ اندلاع الحرب في أكتوبر 2023، وحتى امتدادها الثقيل إلى عام 2025، عاش قطاع غزة واحدة من أعقد الكوارث الإنسانية والاجتماعية في تاريخه الحديث. ملايين القصص الفردية للنجاة، والفقد، والانكسار، تداخلت مع مشهد سياسي مسدود، ومخططات إقليمية ودولية لا تزال تتعامل مع غزة باعتبارها «ملفًا» لا مجتمعًا حيًا.

في أروقة النخب الفلسطينية، ودوائر الباحثين، وورشات التفكير المغلقة، تُطرح أفكار متعددة للإجابة عن سؤال ما بعد الحرب. هذه الورقة التى وضع افكارها د. ربحي الجديلي، ليست إجابة نهائية، بل مقترح للنقاش، مستند إلى تجربة ميدانية في العمل الإغاثي داخل غزة، ورؤية ترى أن إعادة الإعمار الحقيقية تبدأ من الإنسان قبل الحجر، ومن الإغاثة إلى إعادة بناء المجتمع.

إن الواقع الميداني اليوم يُظهر تحوّلًا عميقًا في سلم أولويات الغزيين، إذ لم يعد الحديث عن الشعارات الكبرى أو الاصطفافات السياسية يشغل الناس بقدر ما يشغلهم البحث عن الأمان، والغذاء، والماء، والسكن، والحد الأدنى من الكرامة. إن الفجوة الهائلة في القوة والبنية التحتية بين الاحتلال والمجتمع الفلسطيني جعلت استمرار إدارة الحياة بمنطق المواجهة التقليدية عبئًا إضافيًا على المدنيين.

لقد خلّفت الحرب أكثر من مليون نازح يعيشون في ظروف غير إنسانية، ودمارًا واسعًا في البنية التحتية، وانهيارًا شبه كامل في الخدمات الصحية والتعليمية، وانكماشًا اقتصاديًا حادًا دفع غالبية السكان للاعتماد على المساعدات. الأخطر من ذلك، تآكل الثقة الشعبية في النخب السياسية، بعد سنوات من الوعود غير المحققة.

في هذا الفراغ، برزت المبادرات المجتمعية المحلية كخط الدفاع الأول عن الحياة. ففي مناطق مثل تل السلطان والمواصي، تولّى المواطنون بأنفسهم تنظيم الإيواء، وتوزيع الغذاء، والتعليم المؤقت. أثبتت هذه التجارب أن الاستجابة المحلية، حين تُمنح الحد الأدنى من الدعم، أكثر سرعة وفعالية من مؤسسات دولية مثقلة بالبيروقراطية والتسييس.

إن ملامح رؤية بديلة لمرحلة ما بعد الحرب، وهذه الرؤية المقترحة تقوم على ثلاثة تحوّلات أساسية: 
1) الانتقال من الإغاثة الطارئة إلى التنمية المستدامة . 2) ومن إدارة الأزمة بعقل أمني إلى إدارة الحياة بعقل مدني . 3) ومن الوصاية السياسية إلى الشراكة المجتمعية.

 وعليه؛ فإن أول هذه المحاور هو التمكين المجتمعي والحوكمة المحلية، عبر بناء شبكات أهلية لإدارة الخدمات على مستوى الأحياء، بإشراف مهني ومحاسبة علنية، وإشراك النقابات والقطاع الخاص والهيئات الأهلية في صياغة خطط الإعمار، مع دعم المبادرات الشبابية والنسوية التي أثبتت كفاءتها خلال الحرب.

اما المحور الثاني فيتمثل في التحول من الإغاثة إلى التنمية، من خلال تحويل المبادرات الميدانية المؤقتة إلى مشاريع اقتصادية واجتماعية مستدامة، وتمكين الأسر الفقيرة عبر المشروعات الصغيرة والزراعة الحضرية، وتوجيه التمويل الدولي نحو البنية التحتية والخدمات الأساسية بدلًا من المعونات قصيرة الأجل.

أما المحور الثالث، فيتعلق بـإعادة بناء الثقة والإدارة الرشيدة، عبر فصل المسار الإنساني عن التجاذبات السياسية، وتشكيل إطار مدني وطني لإدارة مرحلة الإعمار يضم شخصيات مستقلة وخبراء وممثلين عن المجتمع المحلي، مع فرض معايير صارمة للشفافية والمساءلة في إدارة التمويل الدولي.
ومن الجدير ذكره، ان جوهر هذا الرؤية تتمحور حول

“الإنسان أولًا…”، بوصفه أفقًا سياسيًا وأخلاقيًا..
وعلى المدى الأبعد، لا يمكن لغزة أن تنهض دون خطة اقتصادية واجتماعية تعيد تشغيل القطاعات الإنتاجية، وتستثمر في التعليم المهني والتقني، وتُشرك رجال الأعمال الفلسطينيين في الداخل والشتات ضمن صناديق تمويل مجتمعي محلية.

هذا المقترح لا يدّعي امتلاك الحقيقة، بل يفتح باب النقاش حول ضرورة عقد اجتماعي جديد، تكون مرجعيته «الإنسان أولًا». فغزة لا تحتاج فقط إلى أموال الإعمار، بل إلى إدارة عاقلة، ورحمة سياسية، وعدالة اجتماعية ترى في الحياة الكريمة أعلى أشكال الصمود.

كما قال نيلسون مانديلا: «الإنسانية لا تُقاس بما نملك، بل بما نقدّمه للآخرين في أوقات محنتهم». لعل غزة بعد هذه الحرب تكون فرصة لإعادة تعريف معنى الإنسانية، لا اختبارًا دائمًا لفشلها.

شاركها.