يقف الفلسطينيون اليوم على شفا جرف سياسي واجتماعي وجودي، وكأن الأرض قد انسحبت من تحت أقدامهم، فلا يبقى لهم سوى سؤال ملحّ: كيف السبيل إلى النجاة؟ فالصمود وحده لم يعد كافيًا. نحن في لحظة تتجاوز مجرد البقاء، إنها لحظة إعادة تعريف الذات الوطنية، ولوجهة الطريق وسط عالم يُصادر الحق ويعيد تشكيل الخرائط وفق ميزان القوة والمصلحة.
في هذا السياق، ما نعيشه ليس مجرد أزمة سياسية، بل اختبار وجودي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، تمامًا كما وصف الفيلسوف هايدغر الإنسان بأنه “كائن على شفا الهاوية”؛ لم يعد الفلسطيني مجرد شعب يعاني من الاحتلال، بل شعب تُستهدف هويته، ويُسلب مشروعه الوطني، ويراد له أن يُدفن حيًّا تحت ركام الحرب والانقسام والخذلان.
ترتكب إسرائيل حرب إبادة جماعية لا تُخفي دوافعها الاستراتيجية، وإن حاولت تغليفها بذريعة القضاء على حماس وتحرير الأسرى؛ لكن من يُمعن النظر في المسار يرى أن الهدف أعمق وأخطر: تصفية القضية الفلسطينية، تفكيك منظمة التحرير، تقويض السلطة، تعميق الانقسام، استهداف المخيمات ومدن الضفة الغربية، إلى جانب تصعيد الحرب على قطاع غزة وصولًا إلى ما هو أبعد من النفي والتهجير، نحو إنهاء الحلم الوطني من جذوره.
وأمام هذا المخطط، لا يكفي أن نرفض أو نندد أو نرفع الشعارات، بل علينا أن نمتلك الجرأة للخروج من لعبة النصر والهزيمة التقليدية، والتركيز على إفشال الهدف الاستراتيجي عبر وقف الحرب ومنع تصفية القضية، باتخاذ خطوات جدية نحو تحقيق النجاة الوطنية؛ وهذا لا يكون إلا بموقف أكثر وعيًا ومسؤولية.
في مثل هذه اللحظات، تُعلّمنا الفلسفة أن الأزمة فرصة للتغيير الجذري، وأن الإنسان لا ينجو إلا بإرادته الحرة في مواجهة قدره، وهكذا أيضًا ينجو شعب بأكمله.
التحدي الذي نواجهه يتطلب موقفًا استراتيجيًا موحدًا، يتجاوز الإدانة والبكاء؛ المطلوب فعلٌ بحجم النكبة التي نعيشها، وببساطة ووضوح، أن نعيد تشكيل بيتنا الفلسطيني ضمن مشروع وطني يحافظ على منظمة التحرير الفلسطينية الإطار الجامع والشرعي والوحيد لتمثيل الشعب الفلسطيني، ولتحقيق ذلك، لا بد من شجاعة سياسية حقيقية.
على حركة حماس – إن كانت تُدرك خطورة اللحظة – أن تتخذ القرار الأهم في تاريخها: رفع يدها عن المشهد السياسي والإداري في غزة، ليس بوصفه انسحابًا، بل خطوة استراتيجية نحو توحيد الصف الفلسطيني، وإعادة ترتيب البيت الداخلي لمواجهة الخطر الوجودي؛ نحن لا نحتاج إلى نصر عسكري فوق الأطلال، بل إلى نصر وطني يعيد توحيد شعب مشتت، ويُطلق مشروعًا تحرريًا متماسكًا.
نحن لسنا أول من يقف على شفا الجرف، شعوب أخرى خاضت تجارب وجودية مماثلة، ونجحت في العبور، هذه التجارب تمنحنا أدلة كافية.
تجربة فيتنام تبرز بقوة، ليس كمثال بعيد، بل كقصة قريبة في روحها ودروسها؛ فقد كانت البلاد في منتصف القرن العشرين ممزقة بين سلطتين، شمالية وجنوبية، في حرب داخلية طاحنة، مع تدخلات إقليمية ودولية عميقة، ومحاولات متكررة لإلغاء فكرة الدولة الموحدة؛ ومع ذلك، استطاع الفيتناميون، بعد سنوات من الدم والانقسام، أن يوحدوا بلادهم تحت مشروع تحرري وطني مستقل، استند إلى إرادة شعبية واسعة، وتجاوز النزعات الفئوية، وبلور سردية جامعة للهوية الوطنية، لقد نجوا كأمة، لا كطرف منتصر.
أليس من حق الفلسطينيين أن يحلموا بنجاة كهذه؟ نجاة لا تُبقيهم أسرى المحاور، ولا تغرقهم في خطاب النصر على أنقاض الشعب، بل تفتح طريقًا جديدًا نحو الخلاص الجمعي.
الفلسطينيون اليوم مدعوون لإحياء روحهم الوطنية على قاعدة واضحة: التحرر لا يكون بتكريس الانقسام، ولا بالتبعية لمحاور إقليمية، ولا بالرهان على المعجزات، التحرر لا يُبنى إلا بإرادة سياسية حرة، وعمل جماعي موحد، وتحالفات مدروسة، ومقاومة شاملة تبدأ بوعي الشعب.
هنا، لا بد من التمييز بين مسارين: شتّان بين من يسعى إلى تدويل القضية طلبًا للحماية وتوسيع دائرة الضغط على الاحتلال، وبين من يأخذنا إلى مشروع وصاية جديد يعيد إنتاج الانتداب بصيغة معاصرة. كأننا نستبدل الاحتلال باحتلال، والاستعمار باستعمار، ونظن أننا ننجو! النجاة الوطنية لا تمرّ عبر التنازل عن السيادة، ولا عبر مقايضة الحقوق بالتبعية، بل عبر امتلاك القرار الحر، وبناء القوة من داخل الإرادة الشعبية، وترسيخ الشرعية الوطنية الجامعة.
ما أدعو إليه ليس مثالية حالمة، بل ضرورة بديهية؛ عندما نكون على شفا الجرف، لا نملك ترف المماطلة، بل خياران: إما أن نسقط، أو أن نبني جسرًا إلى الضفة الأخرى، وهذا الجسر اسمه: شرعية، وحدة، وضوح، واستقلال القرار.
النجاة لا تعني فقط البقاء على قيد الحياة، بل إعادة الحياة لمعناها في سياق فلسطيني حرّ، عادل، وفاعل. وهذا ليس حلمًا بعيدًا، بل خيار لا بديل عنه.