بين رغبةٍ لم تعد قادرة على ابتداعٍ جديد، وقلمٍ يتمرّد على القنوط،أتردّد: أكتب أو لا أكتب، حوارٌ مع الأنا. ليس لأنني لا أملك رأياً، أو لأن الأفكار نضبت، بل لأن الإحباط صار أثقل من اللغة. ربما هو الملل، وربما هو فقدان الشغف، وربما هو ذلك التيه العام الذي نعيشه على كل المستويات، حيث لم يعد شيء يبدو واضحاً بما يكفي ليُكتب عنه بثقة.

كيف نكتب في زمنٍ تتراكم فيه كوارث شعبنا، وتتحوّل المأساة إلى مشهد يومي بلا نهاية؟. كيف نكتب، ونحن نرى الناس تُسحق، بين بيوتٍ تهدّمت، وخيامٍ بالية لم تعد قادرة على حمايتهم من زخّات المطر وبرد الشتاء، فيما الأرواح تُستنزف، والأجساد لم تعد تحتمل قسوة لا تتوقف؟. فيما الخطاب السياسي للفصائل عامة ولحركة حماس خصوصاً، يبدو منفصلاً تماماً عن الواقع، يعيش في عالمه الخاص، بلغته الخاصة، وانتصاراته المتخيَّلة؟

الكتابة تحتاج إلى حدٍّ أدنى من الإيمان، بأن هناك من يقرأ، لا بالمعنى التقني، بل بالمعنى الإنساني: من يسمع، من يفكّر، من يتأثر. لكن الإحساس الغالب اليوم هو أن الكلام يدور في فراغ، وأن المقالات تُكتب لتُضاف إلى الضجيج، لا لتُحدث فرقاً. وكأن لا أحد يقرأ فعلاً، أو كأن من يقرأ لا يملك أي قدرة على الفعل أو التأثير.الإحباط لا يأتي فقط من تراكم النكبات، بل من هذا الانفصال الصارخ بين معاناة الناس، وبين لغة الفصائل التي لا تشبههم، ولا تعبّر عن خوفهم، ولا تحسب كلفتهم. وحين تنفصل السياسة عن الواقع، تنفصل الكتابة أيضاً، لأنها تفقد موضوعها الحقيقي، وهوالإنسان.

وربما هذا ما يفسّر هذا التعب من الكتابة، وهو تعبٌ ليس فردياً بقدر ما هو تعبير عن زمنٍ كامل. زمن يشبه ما كان “الطاهر وطار” قد لمّح إليه، حين كتب عن الرداءة والالتباس؛ الزمن الذي لا ينهار فيه الواقع وحده، بل تنهار معه اللغة أيضاً. في مثل هذا الزمن، تفقد الكلمات قدرتها على الكشف، وتتحوّل المقالات إلى جزء من الضجيج العام، لا إلى أداة لفهم ما يجري. وكان يرى أن أخطر ما في الأزمنة الخرابية ليس القمع المباشر، بل تزييف الوعي، وادّعاء البطولة، وتحويل الهزيمة إلى خطاب منمّق. لذلك تصبح الكتابة فعلاً شائكاً، بين صمتٍ يُساء فهمه، وكلامٍ يخشى الكاتب أن يكون مشاركة في المأساة نفسها.

ربما لهذا نتوقف عن الكتابة أحياناً. ليس صمتاً، بل احتجاجاً داخلياً. ليس عجزاً، بل رفضاً لإعادة قول ما لم يعد صادقاً، أو لترديد خطاب لا يغيّر شيئاً في واقعٍ يزداد قسوة.

في زمنٍ كهذا، تصبح الكتابة سؤالاً أكثر منها جواباً. سؤالاً عن المعنى، عن الجدوى، وعن حدود اللغة حين تعجز عن ملاحقة حجم الألم. وربما ما أحاول قوله في النهاية هو أن المأساة لا تقتصر على من يعيش الويلات مباشرة، على من فقد بيته أو أحبّاءه أو أمانه، بل تمتدّ أيضاً إلى من يمسك قلماً وورقة محاولاً أن يصف الحال، أو يعلّق على معطيات السياسة، أو يبحث عن معنى وسط هذا الركام. فحين تُستنزف الحقيقة، وتُشوَّه اللغة، ويغدو الكلام عاجزاً عن مواكبة حجم الألم، تصبح الكتابة نفسها عبئاً، لا امتيازاً. وفي زمن كهذا، لا يكون صمت الكاتب خيانة، بل تعبيراً آخر عن حجم المأساة التي طالت الجميع، حتى أولئك الذين لم يبقَ لهم سوى الكلمات.

شاركها.