في صباح يوم 14 أكتوبر 2025، استيقظت غزة على فرحة خجولة جديدة، حيث شهد قطاع غزة حدثًا استثنائيًا تلا خبر وقف الحرب بأيام قليلة؛ خبر إعلان نتائج الثانوية العامة بعد عامين من الحرب والدمار الذي حل بالمدارس والمنازل والمكتبات. أكثر من 26 ألف طالب وطالبة تقدموا للامتحانات، متحدين النزوح المتكرر وفقدان الموارد التعليمية، ليؤكدوا أن التعليم في فلسطين حق مقدس لا يُلغى مهما كانت الظروف.
بدأت امتحانات الثانوية العامة منتصف سبتمبر 2025، بعد عامين من الإبادة التعليمية والتعليم الشعبي البديل في الخيام ومراكز الإيواء. تزامنت الامتحانات مع دمار واسع للبنية التحتية التعليمية، حيث دُمرت المدارس وتحولت إلى مراكز إيواء للنازحين، وغاب الكثير من المعلمين عن مناطقهم.
اعتمدت وزارة التربية والتعليم نظامًا رقميًا جديدًا يعرف باسم “وايز سكول” (Wise School)، لتسجيل الطلاب وإدارة الامتحانات إلكترونيًا، في خطوة ساعدت على تسهيل الإجراءات في غياب البنية التحتية التقليدية. هذا النظام سمح بمتابعة بيانات أكثر من 26 ألف طالب وإعداد القاعات الافتراضية للامتحانات، ليكون التعليم مستمرًا رغم الظروف الصعبة التي كان أبرزها توقف التعليم النظامي لفترات طويلة، حينها لجأ الطلاب إلى التعلم الذاتي والاعتماد على الإنترنت و”يوتيوب” كنافذة نحو المعرفة، حتى في غرف صغيرة أو تحت خيام اللجوء تفتقر للكهرباء. وظهرت ما يُعرف بـ”مدارس الظلّ”، حلقات صغيرة تجمع الطلاب والمعلمين في البيوت أو المساجد لتلقي دروس خصوصية، رغم الأعباء المالية والمخاطر الأمنية أثناء التنقل. كثير من الأهالي اضطروا إلى بيع مقتنيات بسيطة أو دفع ما تبقى لديهم من مدخرات لتأمين رسوم الدروس، إيمانًا بأن التعليم هو استثمار لا يضاهيه شيء في زمن الحرب.
ومع اقتراب موعد الامتحانات، واجه الطلاب تحديًا جديدًا لا يقل خطورة عن الحرب نفسها، وهو الوصول إلى مراكز الامتحان في ظل انقطاع الكهرباء وغياب الخدمات الأساسية. اضطر بعض الطلاب للمشي لمسافات طويلة، وآخرون ركِبوا عربات صغيرة أو دراجات، وسط الطرق المدمرة والغبار الكثيف، متحدين الخوف والتعب ليصلوا إلى قاعات الامتحان.
داخل القاعات، كان الصمت يخيم على الجو، بينما كانت أصوات الطائرات الحربية تتعالى في الخارج. لم يكن الامتحان مجرد اختبار أكاديمي، بل اختبار إرادة وصبر، لتثبيت الهوية الفلسطينية وإثباتها أمام العالم.
الطالبة “فاطمة”، التي فقدت والدها تحت الركام، قالت إنها كانت تكتب اسمه في رأس كل صفحة صباحًا كأنه ما زال يوقظها للمدرسة، مؤكدة أن استمرارها في التعلم كان أشبه بالمقاومة اليومية.
أما الطالب “علي”، الذي نزح أكثر من عشر مرات، فقد كان يراجع المعادلات الكيميائية على أصوات المدافع، ويخطها على جدران خيمته بقلم مكسور، في رسالة صمود حقيقية تعكس تصميم الطلاب على استكمال تعليمهم رغم كل التحديات.
وعندما أُعلنت النتائج، لم تكن مجرد درجات، بل رموز صمود وإصرار. كل طالب نجح وسط هذه الظروف المثقلة بالخطر والحرمان أعاد تعريف معنى التعليم في غزة: تعليم يولد من تحت النار، ويزهر رغم الحصار، ويؤكد أن مستقبل الأطفال ما زال ممكنًا، وأن إرادتهم لا تُقهر.
لطالما كان التعليم عند الفلسطيني فعل مقاوم، منذ النكبة الأولى، واليوم يؤكد جيل 2025 أن الحق في التعلم مقدس، وأن محاولات الإبادة التعليمية لا يمكن أن تمحو الإرادة أو الوعي. الطلاب جلسوا في خيام أقيمت على ركام المدارس، وحفظوا الدروس على ضوء الشموع، ليؤكدوا للعالم أن الفلسطيني لا يُهزم.
جيل 2025 في غزة هو جيل ما بعد الإبادة التعليمية، الذي سيعيد بناء المدارس والجامعات بالأفكار والمعرفة، ويظل شاهدًا على قسوة التجربة وإصرار الأجيال على التعلم، كما قال الشهيد الدكتور رفعت العرعير:
“إذا كان لا بدّ أن أموت، فلا بد أن تعيش أنت لتروي حكايتي”
إن يوم 14 أكتوبر من هذا العام، ليس مجرد إعلان نتائج؛ إنه يوم ولادة جديدة لغزة، يوم يحتفى فيه بحق التعليم، ويحتفل فيه الشعب الفلسطيني بقدرة أبنائه على تحويل الرماد إلى معرفة، والمأساة إلى إرادة لا تُقهر.
إحصائيًا، تجاوزت نسبة النجاح هذا العام كل التوقعات، فطلاب تمكنوا من استكمال تعليمهم وسط النزوح والدمار، ما يجعل كل رقم في النتائج شهادة على صمودهم وإرادتهم. فالتعليم في غزة اليوم لا يُقاس بالدرجات فحسب، بل بقدرة الروح على الصمود في وجه الإبادة.
النجاح هذا العام ليس نهاية المطاف، بل بداية الطريق لجيل سيعيد بناء المدارس والجامعات، ليس بالحجارة وحدها، بل بالأفكار والمعرفة. هؤلاء الطلاب سيكبرون ليصبحوا أساتذة وأطباء ومهندسين، لكن قبل كل شيء، حراسًا للذاكرة الفلسطينية وشهودًا على تجربة تعليمية استثنائية.
اليوم، غزة تبعث للعالم رسالة واضحة: “ربما تستطيعون هدم مدارسنا، لكنكم لن تستطيعوا هدم إرادتنا في التعلم”. يوم 14 أكتوبر 2025 أصبح شاهدًا على قوة إرادة الشباب الفلسطيني، واحتفاءً بالحق المقدس في التعليم، وبهاءً للصمود الذي يزهر رغم النار والدمار.
وفي ظل هذه الفرحة العارمة التي شهدها الغزيون بعد إعلان نتائج الثانوية العامة لعام 2025 لمواليد 2006، تتطلع غزة اليوم إلى الإعلان عن نتائج الطلبة من مواليد 2007، الذين أنهوا امتحاناتهم مؤخرًا على نظام “وايز سكول” الإلكتروني. ينتظر الطلاب وأهاليهم هذه اللحظة بفارغ الصبر، وكأنهم على موعد مع فرحة جديدة وعرس من الإنجاز العلمي، ليستمر مسلسل الصمود والنجاح الذي يثبت للعالم أن غزة، رغم كل الصعاب، قادرة على إنتاج أجيال متعلمة، صامدة، ومتمسكة بحقها في التعليم والحرية والمعرفة.