اخبار

إغتيال الملك فيصل: الأشهر الأخيرة‎ وطن

وطن في ١٤ يونيو ١٩٧٤ قرر الرئيس ريتشارد نيكسون زيارة السعودية، كانت ضمن زيارات استعراضية عديدة للدول العربية والكيان الصهيوني، كانت اشبه ما تكون وداعية وكان ينتظر منها ان يستقبل استقبال الأبطال، بعد اتفاقيات فك الاشتباك ما بين مصر وسوريا من جهة والكيان الصهيوني من جهة أخرى، فهذا يعني له الكثير بعد فضيحة “ووترقيت” وتخبطه في حرب فيتنام التي انسحب منها مدحورا، ثم تخبطه في لاوس وكمبوديا، حيث تحول لأكثر الرؤساء الأمريكيين كرها لدى الشعب الأمريكي، ولكن لم تنفعه لا هذه الزيارات ولا غيرها حيث استقال بطريقة مزرية بعد شهرين منها.

قال له وزير خارجيته هنري كيسنجر: “سيستقبلوك في مصر استقبالا رائعا، واستقبالك في الأردن سيكون عظيما واستقبالك في السعودية أيضا سيكون رائعا، أما في سوريا فالشيطان وحده يعلم كيف سيكون استقبالك”.

استقبل في سوريا ومصر استقبالا كبيرا، في الأردن عزفوا له موسيقى “الواشنطن بوست” من ضمن المعزوفات التي تم اختيارها للترحيب به، كالعادة في استقبال الرؤساء الأمريكيين، فغضب غضبا شديدا، كانت الواشنطن بوست سبب مأساته، فهي التي فجرت فضيحة “الووترقيت”.

في السعودية استقبله الملك فيصل استقبالا هادئا وشكره على تعاونه في اتفاقيات فك الاشتباك.

لاحظ ريتشارد نيكسون الضعف والهزال على مضيفه الملك، وسأله عن السبب وأخبره أنه يعلم من ملفات استخباراتهم أن عمره ٧٢ عاما وليس ٦٨ كما يذكر رسميا، كان نيكسون يعلم ما يدور حوله، بل كان شريكا مع وزيره كيسنجر في جل المصائب التي حلت بالملك وكان يعلم إن كان لديه “ووترقيت” واحدة فإن الملك فيصل يواجه مئة “ووترقيت”، كان نيكسون يعالج فضائحه بشرب الخمور والنوم، عندما أحرق الجيش الأمريكي كمبوديا كان بناء على طلب من نيكسون لوزير خارجيته كيسنجر آخر الليل عبر اتصال هاتفي وهو غارق في السكر، حتى أن كيسنجر المتعطش للدم واي دم قال “نفذوا أوامر الرئيس السكران”!، فكم كارثة حلت بنا منهم وهم سكارى..

لكن فيصل لا يسكر ولا يدخن، وبدأ يعالج مصائبه بالعزلة والصمت والتي حلت عليه من القريب والبعيد.

لاحظ نيكسون أنه قليل الاكل وربما عرف سر هزاله الآن، وذلك أثناء مأدبة العشاء الرسمية حين رأى الملك فيصل يساير ضيفه لبيقى فترة أطول على المائدة حين اخذ تفاحه وبدأ يقضمها لفترة طويلة.

كان حظر النفط قد انتهى، وبدأ ضخ النفط إلى أسواق امريكا والغرب وبكميات هائلة، منها ما هو بطريقة معلنة وما هو غير معلن، وفي المقابل بدأت أموال النفط تصب بغزارة على بلد ليس عنده القدرة ليحمي هذه الثروات، فالمتربصون بها من الخارج ومن الداخل لا يحصون، فكل الذي كانوا حول الملك الا من رحم ربي، يرون في المملكة أكبر مغارة علي بابا على وجه الأرض.

وفي الخارج ايضا بدأ الكل يطالب بنصيبه من الغنيمة، نالت مؤسسات امريكا والغرب النصيب الاكبر، في حين نال الدول العربية أقل بكثير، حتى أن الصحف اللبنانية وصفت الملك فيصل بالبخيل مما اغضبه جدا، وحتى السادات لم ينل منه ما كان يطمح له، أعطاه ثلاثمائة ملايين دولار واشترى له بعض الطائرات العسكرية على أن يسلمها له كيسنجر، كان قد خاف من فساد وحوش الصفقات الذين حول السادات، لم يعلم أن هنري كيسنجر أكثر منهم فسادا، والذي لم يسلم هذه الطائرات للسادات ابدا، كان فيصل يريد أن يعوض السادات عن الروس وسلاحهم، والذي كان فيصل قد عقد معه صفقة من أجل طردهم من مصر والتي كانت بمسعى أمريكي اولا وأخيرا، أما النفط فقد عرض الملك فيصل على السادات ما يريد من نفط شرط ان يكون النقل عليه!.

صارت اموال النفط تنهب الآن على كل المستويات والاصعدة، حتى نيكسون الذي قال على نفس المادبة للملك فيصل، “ان الزوار لبلدكم يأتي اغلبهم من أجل النفط ولكن لا يعلمون ان أن هناك ما هو اثمن من النفط الا وهي حكمتكم!” ولكن بعدها بثوان قال” سأكون عمليا واقول اني اريد المزيد من النفط وسادفع لكم بالسعر العالمي!”

رد عليه الملك فيصل بديباجة ذاك الزمان والتي لم نر منها شيئا حتى يومنا هذا، ومع ذلك افتقدناها في هذا الزمن الحاضر، فقال:

“سيدي الرئيس، إن الظلم والعدوان الذي لحق بعرب فلسطين لم يسبق له مثيل في التاريخ، ولا حتى في أحلك العصور فلم يتم طرد شعب كامل من بلد ما من ديارهم ليحل محلهم الغرباء الا في فلسطين، لقد ناشدت الأمة العربية ضمير العالم منذ أكثر من ربع قرن لاستعادة حقوقهم المفقودة ورفع الظلم الذي ارتكب، لكن هذه النداءات ذهبت سدى، ولم يكن أمامهم بديل سوى اللجوء إلى السلاح دفاعا عن حقوقهم وأرضهم، ومقدساتهم”.

كانت ثمة فضيحة كبرى مشتركة ما بين السعودية وامريكا في طريقها للانفجار، ومع أنها بدأت منذ بداية السبعينات الا أن القضاء الأمريكي بدأ يفتح أوراقها الآن وهي دفع شركات أسلحة أمريكية رشاوى ضخمة لامراء وشخصيات نافذة وضباط عسكريين في السعودية، وهو ما يتعارض مع القانون الأمريكي، كان ضابط المخابرات الأمريكية الشهير وسيء الصيت “كيمت روزفلت” هو من جند المرتشين من المسؤولين السعوديين حسب معرفته بهم، وكيمت روزفلت هو من قاد عملية الانقلاب الشهيرة على حكومة مصدق الإيرانية الوطنية والتي اعادت الشاه للحكم، وهو الذي قام بدفع رشاوى للآلاف في ايران من سياسيين وعسكريين وشيوخ دين للتعاون معه في عملية الانقلاب، هو الآن يقوم بنفس الشيء ولكن من أجل تسويق السلاح الأمريكي في السعودية والخليج العربي، بعد ان استبعد من المخابرات الأمريكية بعد ارتكابه العديد من الكوارث بالذات في انقلاب مصدق الشهير، وهذا يكفي الملك فيصل ان يستطير رعبا منه.

الملك فيصل وهنري كيسنجر

اول من قام كيميت روزفلت بشراء ذممهم، كان عدنان خاشقجي الذي كان يعمل لصالح الامير فهد ثم وزير الدفاع الأمير سلطان ثم كمال ادهم والمشغول انذاك بسوق السلاح الفرنسي ومعه ايضا اشرف مروان، من مصر، وضباط سعوديون كانوا ضمن العملية، كانت العملية تدار في السعودية بسرية تامة من قبل الأمراء السديريين ومعهم نسيب الملك فيصل كمال أدهم، ورغم انفجار الفضيحة في امريكا الا أنه في السعودية ظلت في الكتمان حتى ورد اسم ابن الملك فيصل البكر، عبدالله الفيصل والذي تم الكشف عن اسمه من بين المرتشيين الذين دفعت لهم شركة “نورثروب” للصناعات الجوية وذلك بمبلغ سبعين مليون دولار، من خلال علاقة مع عدنان خاشقجي والذي يمقته الملك فيصل بلا حدود بالذات بعد فضيحته مع الأمير فهد في فرنسا والتي كانت حديث الصحف حينها.

لذا أمر ابنه بالانسحاب من هذه الصفقة وحاول إيقاف عملية الرشاوي برمتها، مما عد ضربة قوية لضابط المخابرات الأمريكية السابق كيميت روزفلت.

ومع ذلك استمر كل شيء ربما بأكثر سرية، خاصة بعد الوفاة الغامضة لمسؤول النقد السعودي “انور علي” في واشنطن بتاريخ ٥ نوفمبر ١٩٧٤ والذي كان موته قد كسر ظهر الملك فيصل، فكان اكبر شخصية اعتمد عليها الملك فيصل ووثق بها في ادارة الأمور المالية والاقتصادية، وعين السديريون بديلا عنه وهو عبدالعزيز القريشي والذي بدأ يوقع على معاملات الصفقات دون أن تصل “الاوراق” للملك فيصل.

بعد تسعة ايام وبتاريخ ١٤ نوفمبر ١٩٧٤ استلم الملك فيصل ايضا تابوت عمر السقاف وزير خارجيته، والذي تم تسميمه في نيويورك، كان يد الملك فيصل اليمنى وآخر شخصية يمكن أن يعتمد عليها الملك (كتبنا عنه في مقال سابق بالتفصيل)، وعين السديريون أيضا بديلا عنه، وهو محمد ابراهيم مسعود، كان مقربا من الأمير فهد، تصفه الوثائق الأمريكية بأنه “صديق أمريكا”، عمل في بداية الخمسينات من القرن الماضي كرابط اتصال ما بين السفارة الأمريكية والملك عبدالعزيز آل سعود، ولعل هذا ما يوضح هذه الصداقة، كان مسعود آخر شخصية اجتمع بها هنري كيسنجر على حده، قبل اجتماعه العاصف والأخير مع الملك فيصل الذي سبق اغتياله بستة أيام، وسنأتي لتفصيل ذلك في مقال قادم.

في بداية عام ١٩٧٥ يمكن القول أن الملك فيصل قد وصل إلى النهاية، كان قد رأى حلمه الثاني والذي اخبر به عمته واورده روبرت ليسي في كتاب المملكة: “كنت واقفا فى الصحراء حين اقتربت سيارة مني، كانت مكشوفة ومن النوع القديم، وجلس فيها جدي الإمام عبد الرحمن ووالدى عبد العزيز وأخى الأكبر تركى الذى توفى عندما كنت فى الثالثة عشرة من عمرى، وعمى سعد الذى قُتل فى معركة مع العجمان، كانوا كلهم فى السيارة معا، وحين رأوني توقفوا ولوحوا لى بأيديهم، قال والدي: “تعال معنا فى السيارة يا فيصل.. وخرج ليأخذ بيدى، شعرت بفرح غامر لرؤية أفراد عائلتي الذين توفوا قبل مدة طويلة وخطوت خطوة نحوهم، حينها شعرت بخوف فظيع، أردت أن أستدير وأهرب ولكن والدي أمسك بيدي، قاومت فشدنى إليه، قاومت أكثر، فخرج الآخرون من السيارة ليساعدوه وجرونى كلهم إلى الداخل بالقوة، وسرعان ما أقفل الباب وتحركت بنا السيارة”.

أخبر عمته بهذا الحلم الثاني وقال إنه على يقين أن أجله قد اقترب دون أدنى شك.

مع انه قد انتهى بالفعل قبل ان يتم اغتياله حقيقة بعد أقل من اربعة اشهر، وبعد أن بلغ ارفع ما يحلم به أي زعيم في العالم الإسلامي، خاصة بعد هزيمة وموت جمال عبدالناصر الذي كان يتنافس معه حد الموت في قيادة العالم العربي وقدوم السادات الذي كان للملك فيصل دورا بالمجيء به عبر نسيبه كمال أدهم.

لكن شعبه في الجزيرة العربية والذي رأى فيه أنه افضل من حكم في أسرة آل سعود ربما في كل دولها الثلاث، لا يعلم ما الذي يجري بحقه في هذه الفترة، وحتى هؤلاء الذين ينادون بإسمه في كل أنحاء العالم الاسلامي ايضا لا يعلمون أنه كان في حطام لا مثيل له، ولا يعلمون انه قد استسلم تماما، وللحق أن الصراع الذي عاشه في اشهره الأخيرة لا تحتمله الجبال، بل في السنة الأخيرة حين بدأ الاتفاق ما بين جناح الأمراء السديريين والحكومة الأمريكية عبر هنري كيسنجر يتبلور عبر “اللجنة الأمريكية السعودية المشتركة للتعاون الاقتصادي” والتي كانت أشبه بانقلاب ناعم قبل ان يحدث الانقلاب الحقيقي.
كل شيء تحول ضده حتى اقرب الناس اليه تحولوا الى معاول هدم لأساس عرشه، فالذين صنعهم واوصلهم إلى مراكز القوة والثراء، قد تم تجنيدهم اما لصالح أمريكيا او جناح الأمراء السديريين أو كلاهما ولا فرق بين الرايتين، وحتى أولاده دون ان يدروا كانوا لعبة في يد الخال كمال ادهم والذي لم يكن في صف والدهم ابدا ولا حتى بلدهم.

أما اخلص من وقف معه كوزير خارجيته عمر السقاف ومسؤول “ماليته” انور علي فقد دفنهما بصمت قبل ٥ أشهر من اغتياله مع يقينه أنهما اغتيلا بفعل فاعل، ولكنه لم يحقق في ذلك إطلاقا، ولعله خاف ولا سبب غير ذلك.

اما امريكا التي استسلم الملك فيصل لكل مطالبها الجشعة والشاذة والمتغيرة في كل ظرف، متمثلة بهنري كيسنجر، كان يطالبه سرا بشيء وفي العلن بشيء آخر، وفي الحالتين لا يرى من سوى الإهانة ولا يسمع منه سوى التهديد والوعيد.

في الشهر الأول من عام ١٩٧٥ كانت التهديدات الأمريكية العلنية لاجتياح السعودية وبقية الدول النفطية قائمة أما عبر التصريحات أو عبر مقالات في الصحف الأمريكية، غير التهديدات المباشرة من قبل هنري كيسنجر، والذي بلغ به حتى أن يجند شاه ابران ليهدد الأسرة السعودية الحاكمة “انتم لا ينقصكم المال بل تنقصكم الأمانة” هكذا أخبرهم الشاه رضا بهلوي حسب ما ذكره لهنري كيسنجر، كل هذا اقض مضجع الملك فيصل.

في ١٤ فبراير من عام ١٩٧٥ زار كيسنجر السعودية والتقى بالملك فيصل، كان حينها قد وصل الملك إلى قناعة لا تحتمل الشك، أن الشخص الذي أمامه لا يعدو كونه كذابا مخادعا نصابا غدارا، فكل الوعود التي وعد الملك بها اخل بها، فواجه الملك بغضب ندر أن يأتي منه، سأله عن الوعود التي وعد بها واخل بها، سأله عن الطائرات التي وعد أن يسلمها السادات ولم يسلمها، سأله عن التهديدات والتي جاءت عبر تصريحات وتلميحات ومقالات في الصحف باجتياح السعودية واتهمه صراحة بأنه لا غيره خلفها، اتهمه بأنه يسعى لعزل مصر عن العالم العربي عبر اتفاق ثنائي مع الكيان الصهيوني ودون اي اعتبار للاتفاق مع سوريا، كان الملك فيصل يعتقد أن هذه الخطوة التي ستسبق الاجتياح الأمريكي للسعودية والخليج العربي، وما هذه المقالات سوى تمهيد للرأي العام الأمريكي تماما كما حدث حين أرادوا غزو فيتنام كوبا.

كما اتهم الملك فيصل كيسنجر بأنه يمالي إيران على حساب مصالح العرب، اتهامات بالجملة ولكنها مشروعه ورد عليها كيسنجر بغطرسة وتعجرف لا يقل عن غضب الملك فيصل.

بعد اقل من شهر وبتاريخ ٩ آذار ١٩٧٥ وأثناء زيارة هنري كيسنجر الى الكيان الصهيوني حيث التقى باسحاق رابين في القدس، اخبره كما يكشف محضر اجتماعهما بأن الملك فيصل يخشى من الاغتيال.
يتبع: إغتيال الملك فيصل: الأيام الأخيرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *