ديفيد هيرست: حلم ويتكوف وترامب في غزة ينقصه شيء واحد فقط

قال الكاتب البريطاني ديفيد هيرست، رئيس تحرير موقع “ميدل إيست آي”، إن خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومبعوثه إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف بشأن غزة، ينقصها شيء واحد فقط، وهو الفلسطينيون.
هيرست وفي مقال بموقع “ميدل إيست آي”، قال إن “كل محاولة في تاريخ هذا الصراع لإعلان السلام بدون تحقيق العدالة للفلسطينيين لم ينجم عنه سوى تسعير الحرب”.
وتاليا الترجمة الكاملة للمقال:
ستيف ويتكوف ليس مبعوثاً عادياً للشرق الأوسط. ليس له المصير الشنيع الذي انتهى إليه أسلافه مثل طوني بلير وبريت ماكغيرك.
يقول ويتكوف إنه مبارك، وإنه مكلف برسالة، إن لم يكن من الله، فإذن من ثاني أفضل شيء – والذي هو رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب.
ويتكوف يعبد الرجل حقاً. فقد قال ويتكوف وهو يتحدث مع تاكر كارلسون في مقابلة جديدة: “لقد جاء إلى 101 بارك أفنيو، حيث كنت أعمل محامياً. كان لديه أسلوب في الاختيال. كنت أراه يدخل، وكنت أقول: يا الله أريد أن أكون هو، لا أريد أن أكون المحامي، لا أريد أن أكون كاتب عدل. أريد أن أكون هذا الرجل. نعم، يمكنني تذكر أنني قلت ذلك. لقد كان بالنسبة لي مثل مايكل جوردان”.
المتكهنون من أمثال ويتكوف لا يتحدثون في العادة مع الناس العاديين، وإذا ما فعلوا فإنما يكون ذلك بالألغاز. إن آخر ما تتوقعه من شخص يسعى حالياً لترتيب وقف لإطلاق النار في غزة هو أن يبوح بكل شيء لمذيع برنامج محافظ مدته تسعون دقيقة.
ولكن ذلك بالضبط هو ما فعله ويتكوف. لقد كشف عن كل فكرة مستقرة في دماغه. سال لعاب كارلسون لذلك. أما بالنسبة لنا، فقد كانت الصورة التي رسمها ويتكوف مذهلة للغاية.
لن تجد معلماً يحترم نفسه يمكن أن يسمح لولد في الصف التاسع بأن يفلت بما يبدو أن ويتكوف لا يعرفه عن أقدم الصراعات الإقليمية في العالم.
ففي الصورة التي عرضها ويتكوف لا وجود لادعاء فلسطيني بامتلاك الأرض ولا وجود لحقوق وطنية فلسطينية. ولا وجود لمستوطنين يقومون بطرد الفلسطينيين من بيوتهم في الضفة الغربية المحتلة. ولم يتم للتو الإعلان عن 13 مستوطنة هناك. كما أنه لا يوجد فلسطينيون في إسرائيل. كل شيء يتعلق بحماس وغزة.
والمشكلة في غزة لا تتعلق بسؤال أين ينبغي أن يوضع سكانها الذين يبلغ تعدادهم المليونين. معلوماتنا عن كل ذلك خاطئة. يمكن الدفع بهم إلى أي مكان: إلى أرض الصومال، إلى دول البلقان، إلى أي مكان.
وإنما يتعلق الأمر بسؤال أين ينبغي أن توضع ناطحات سحاب ترامب.
مبعوث إمبراطوري
قال ويتكوف مخاطباً كارلسون، كما لو كان يكشف له عن سر: “إن غزة مليئة بالأنفاق حتى غدت أشبه بالجبنة السويسرية تحت الأرض. ثم يتم ضربهم بقنابل مضادة للتحصينات الخرسانية. إذن لا وجود هناك للصخر في أي مكان. لا يوجد مكان تقيم فيه الأساسات إذا أردت أن تنشئ مباني …. لو كانت لدينا مبانٍ في مثل هذه الأحوال في نيويورك، لأحيط المكان كله بالشريط الأصفر ولما سمح لأحد بالدخول”.
أتصور ذلك، ولكن لو أن سكان نيويورك تعرضوا للحصار سبعة عشر عاماً، وتم تدمير 80 بالمائة من مساكنها بالمسيرات التي تستخدم مانهاتن ميداناً للرماية، لتصورت أن أهل نيويورك كانوا سيتعودون على الاختباء وراء قطع الخرسانة المكسرة، سواء ساعدهم في ذلك شريط أصفر أم لم يساعدهم.
ولكن، لنبدأ بما هو أهم: ويتكوف ليس مجرد مفاوض آخر، بل إنه مبعوث إمبراطوري. يعد الإمبراطور المائدة لجميع نبلائه، معلناً أنه سوف يحصل على “السلام من خلال القوة”.
ليس هذا مجرد شعار. بل إنه شيء عملي. يقول ويتكوف: “فعندما يبتعثك إلى الشرق الأوسط، يشعر الناس بالرهبة قبل أن تصل إليهم”.
ولكن قبل أن تتسلق إلى طائرتك من طراز غالف ستريم جي 650، عليك أن تعلم إلى أين تتجه. يخبرنا ويتكوف أن أهم ما في المفاوضات هو أن تكون موجهة نحو النتيجة المرجوة منها.
والنتيجة لا تقل عن الفردوس.
يقول ويتكوف: “يمكن أن يصبح ساحل الخليج واحداً من أرخص الفرص فيما لو حصلنا على السلام والاستقرار في أرجاء المنطقة. فيما لو حللنا إيران وتمكنت من التمويل في ذلك السوق، إن الإسرائيليين رائعون من الناحية التكنولوجية … فهم في الذكاء الاصطناعي، وفي صناعات الروبوت، وفي سلاسل الكتل. وذلك هو موقع الإمارات العربية المتحدة اليوم، وذلك هو موقع السعودية اليوم، وذلك هو موقع قطر اليوم”.
ويضيف: “هل بإمكانك أن تتصور جميع هذه البلدان وهي تعمل في تعاون وتضافر فيما بينها وتخلق ذلك النمط من السوق؟ يمكن أن يكون ذلك أكبر من أوروبا. أوروبا مختلة ومعطلة اليوم. تصور لو أنهم صاروا شغالين كما يجب، وغدا الجميع هناك حاذقين في التجارة والأعمال. يمكن أن يكون ذلك مذهلاً”.
بالنسبة لويتكوف، الأمر كله يتعلق بالأعمال والتجارة، ولا يبدو أن ثمة مكانا داخل دماغه للكرامة، للحقوق الوطنية الفلسطينية، لإنهاء الاحتلال، أو للسعي لتحقيق المساواة.
إذن انتهت أوروبا، ومعها يكون قد انتهى المشروع الجمهوري لجعل أوروبا الجديدة شريكاً طبيعياً. وغدت إعادة بناء أوروبا الشرقية لتصبح جنة الليبرالية الجديدة دمية أخرى يمكن أن تستغني عنها أمريكا ترامب. وبذلك تصبح بولندا ودول البلطيق من أحاديث الأمس.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “بالغ الذكاء”، حتى وإن لم يتمكن ويتكوف من تذكر أسماء المناطق الأوكرانية التي استولت عليها روسيا.
ولكن 20 بالمائة من أوكرانيا مجرد تفاصيل. بمجرد أن تعرف إلى أين تريد أن تصل، وذلك في الأساس صفقة تجارية عالمية بين الطغاة الذين يفكرون مثل بعضهم البعض، فإن مهمتك التالية هي “عرض الوقائع”.
الاصطدام بالحقيقة
إن “الوقائع” في الشرق الأوسط بسيطة. كانت تجربة روحانية بالنسبة لويتكوف أن يحضر مظاهرة في ميدان الرهائن. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وكبير مساعديه، رون ديرمر، في “غاية الحماس”.
ما كان للولايات المتحدة أن تكون بتلك الدرجة من الفاعلية التي هي عليها الآن لولا حقيقة أن حزب الله والآن حماس تم قطع رؤوسهم، ولولا أن محور المقاومة “تم القضاء عليه إلى حد كبير”. ولا يمكن السماح لحماس بالبقاء في غزة، وإذا كان لا بد من أن تبقى، فلا مفر من نزع سلاحها.
وبالمناسبة، أسلحة إيران النووية هي التي عليها الدور، فلا يمكن لترامب أن يتسامح مع وجود “كوريا الشمالية” في الخليج.
تلك هي الصورة التي تحصل عليها. قد تكون هزلية، معارضة ذاتية لولا أن غزة تم تفتيتها بالقنابل التي زود بها ترامب إسرائيل، كما راح ويتكوف وكارلسون يتجملان ويعربان عن إعجاب كل منهما بالآخر.
أحياناً يصطدم ويتكوف بالحقيقة أثناء تسكعه في دهاليز لالا لاند. ومن ذلك قوله مندفعاً إن مصر باتت في غاية الضعف، وإنها مفلسة، وإن البطالة في وسط الشباب غدت مشكلة كبيرة.
“كل الخير” الذي نجم عن الانتخابات الرئاسية الأخيرة في لبنان، والتي فاز بها رئيس الجيش جوزيف عون بعد تمكن إسرائيل من قتل زعيم حزب الله حسن نصر الله وزعيم حماس يحيى السنوار، “يمكن أن ينقلب إلى الضد فيما لو خسرنا مصر”، كما قال ويتكوف.
كان ينبغي على ويتكوف أن يسأل نفسه لماذا باتت مصر ضعيفة، بعد كل المليارات التي ضختها فيها المملكة العربية السعودية ودول الخليج منذ الانقلاب العسكري قبل 12 سنة. وما ذلك إلا بسبب ما فعله بها عبد الفتاح السيسي، الدكتاتور المفضل لدى ترامب.
ولا ذكر لمن دمروا غزة التي بلغ الخراب فيها أنها تحتاج إلى ما بين 15 إلى 20 سنة حتى يعاد إعمارها، ومع ذلك لا يأتي ويتكوف على ذكر أولئك الذين دمروها. يعلن ويتكوف أن الفلسطينيين في غزة يحتاجون إلى نظام تعليمي. وما الذي كانت تفعله وكالة إغاثة اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة طوال ذلك الوقت والتي نالها من التشويه ما نالها؟ وهي التي بفضل نظامها التعليمي، تحظى غزة بأعلى معدلات محو الأمية في العالم.
يتساءل ويتكوف: تخيل ما الذي سيكون عليه حال غزة فيما لو أصبحت مركزاً للذكاء الاصطناعي، والذي يتحمل المسؤولية عن أفظع إبادة يتعرض لها المدنيون الأبرياء من أطباء ومسعفين وصحفيين وأكاديميين ومعلمين في تاريخ هذا الصراع.
سراب اقتصادي
تخلص من إغراء ما يبدو جديداً، ولسوف تجد أن كل ما يفعله ويتكوف هو تكرار صيغة قديمة جداً. عد بالذاكرة إلى اتفاقيات أوسلو، وستجد أن نفس الكلام الفارغ كان قد قيل عن المعجزة الاقتصادية الوشيكة.
لقد وُعد الفلسطينيون بالسكة الحديدية، وبقناة من وادي الأردن إلى البحر الأحمر، وواحة داخل الضفة الغربية، فقط فيما لو وضعوا أسلحتهم وعملوا مع إسرائيل. بل ووعد بلير جنين بإقامة مدينة صناعية كبرى فيها. إلا أن شيئاً من ذلك لم يتحقق.
لا يحفز ويتكوف وترامب البحث عن حياة أفضل للفلسطينيين. كل ما هنالك هو أنهم يريدون إقامة شرق أوسط تهيمن فيه إسرائيل وتموله دول الخليج.
كلاهما يتوهمان أن كل الأمور كانت تجري على خير ما يرام مع اتفاقيات أبراهام حتى السابع من أكتوبر 2023، وكأنما هجوم حماس، المصنفة جماعة إرهابية في بريطانيا وفي بلدان أخرى، كانت شذوذاً بلا سبب. والحقيقة هي أن محاولات تجاوز القضية الوطنية الفلسطينية في تلك الاتفاقيات كان أحد الأسباب الرئيسية للهجوم.
عندما تسد جميع الطرق نحو الحوار، تصبح المقاومة المسلحة البديل الوحيد. تلك هي واحدة من حقائق هذا الصراع التي كان يحسن بويتكوف التدبر فيها.
قال ويتكوف إن غزة كانت العقبة الوحيدة ولم يذكر الضفة الغربية على الإطلاق. ولكن فيما لو استمرت العملية الإسرائيلية في الضفة الغربية، فلن يتمكن زعيم عربي واحد من إقرار اتفاقيات أبراهام.
احتاج ويتكوف إلى الوقوف في ميدان الرهائن حتى يشعر بالروحانية. وأنا أنصحه قبل أن يتخذ خطوته التالية بأن يستمع إلى ما يشير به زعماء روحانيون آخرون على المسلمين طالبين منهم أن يفعلوه.
ينبغي عليه أن يأخذ بالحسبان ما قاله إمام المسجد الحرام في مكة عبد الرحمن السديس في الصلاة يوم الخميس من الأسبوع الماضي: “يا إلهي عليك بالمحتلين الصهاينة الظالمين، يا إلهي انتقم منهم فإنهم لا يعجزونك”.
مثل هذه الكلمات تعبر عن السخط الذي يغلي في كل قلب عربي. إذا كان ويتكوف يظن أن تهدئة، أو بالأحرى كتم الناس في غزة من شأنه أن يطفئ جذوة هذه الكراهية في قلوب العرب، فإنه يعيش في الأحلام.
نثر البذور
في كل مرة تتعرض فيها الشعوب العربية للضرب، فإنها تعود من جديد. كانت حرب 1948 وإقامة دولة إسرائيل ضربة كبيرة. ولكن بعد أربع سنين فقط أطاحت مصر بالملك وأقامت الجمهورية. وفي عام 1977 توجه رئيس مصر حينذاك أنور السادات إلى القدس ليفتح صفحة جديدة، ثم لقي حتفه بعد أربع سنين فقط. ثم أطيح بخلفه حسني مبارك فقط بعد عامين من الحرب الإسرائيلية على غزة في 20082009.
وهذا هو ما خطر ببال ولي العهد السعودي محمد بن سلمان حينما حذر الأمريكيين من أنه وإن كان هو شخصياً لا مانع لديه من التطبيع مع إسرائيل، إلا أن شعبه لن يرضى بذلك.
كل محاولة في تاريخ هذا الصراع لإعلان السلام بدون تحقيق تسوية عادلة للشعب الفلسطيني كانت محطة لنثر بذور فصل آخر من الصراع.
ما يزرعه نتنياهو وترامب اليوم هو احتدام حريق أوسع نطاقاً من كل شيء شهدته المنطقة حتى الآن. كل ما يفعلونه وكل ما يقولونه يضعف من قدرة الطغاة الذين عليهم تعتمد إسرائيل والولايات المتحدة.
لا يرى ترامب في دول الخليج سوى أبقار حلوبة. أعلنت المملكة العربية السعودية أنها سوف تستثمر تريليون دولار في الاقتصاد الأمريكي، وأعلنت الإمارات أنها سوف تستثمر 1.4 تريليون دولار، ويجري الآن التنمر على الكويت حتى تعلن عن مخصصاتها. لا أحد، سوى إسرائيل، يحصل على إعفاء.
بالنسبة للشعوب العربية، يحمل ذلك رسالة مدمرة. تتساءل هذه الشعوب، كيف يبدي أمراؤنا الأثرياء رغبة في إنفاق تريليوني دولار على الولايات المتحدة بينما هم لا يقدرون على إدخال قارورة مياه إلى غزة؟ إما أن يكون حكامهم عاجزين أو متواطئين، أو كلا الأمرين معاً.
إن الهدوء الذي يسعى لإنشائه ويتكوف أبعد ما يكون عن الاستقرار. مثل تلك القنابل المخترقة للتحصينات الخرسانية، التي تستخدمها إسرائيل لتخريم غزة، يقوض ترامب كل ما يمكن أن يكون قد بقي من شرعية لدى أي من الأنظمة العربية التي تتملقه هو ونتنياهو.
من هذا الجانب أتفق مع ويتكوف في تقييمه لرئيسه. فعلاً، ترامب ثوري بكل ما تعنيه الكلمة. إلا أن هذه الثورة لن تحقق له ما يرجوه منها.
للاطلاع على النص الأصلي (هنا)