أظهرت دراسة جديدة صادرة عن فريق بحثي من معهد ماكس بلانك للأبحاث الديموغرافية (MPIDR) في ألمانيا، أن عدد الفلسطينيين الذين قُتلوا في غزة على يد القوات الإسرائيلية منذ اندلاع الحرب تجاوز على الأرجح حاجز المئة ألف قتيل. وتأتي هذه التقديرات، المبنية على تحليل ديموغرافي معقّد، لتسلط الضوء على حجم الخسائر البشرية غير المسبوقة التي شهدها القطاع خلال الفترة الممتدة من 7 تشرين الأول 2023 حتى نهاية كانون الأول 2024.

 

ووفقًا للدراسة المشتركة بين معهد ماكس بلانك ومركز الدراسات الديموغرافية، فقد بلغ عدد القتلى نتيجة العنف المباشر 78,318 شخصًا حتى 31 كانون الأول 2024—وهو رقم يفوق بكثير الأعداد التي أعلنتها وزارة الصحة في غزة خلال المرحلة نفسها. غير أن الجمعية العلمية التابعة لمعهد ماكس بلانك أوضحت، في تحديث صدر لاحقًا، أن العدد الفعلي للقتلى جراء العنف قد تخطى على الأرجح 100 ألف قتيل، استنادًا إلى مزيد من المراجعات والتقديرات التكميلية.

 

وتتوافق نتائج هذه الدراسة مع أبحاث أخرى وجدت أن الأعداد الحقيقية للوفيات الناجمة عن الهجمات الإسرائيلية أعلى بنحو 40% من التقديرات الرسمية التي نشرتها وزارة الصحة، والتي أعلنت في آخر تحديث لها وصول عدد القتلى إلى 69,775. واللافت أن هذه الدراسات تُعنى فقط بالوفيات المباشرة نتيجة العمليات العسكرية، ولا تشمل الوفيات غير المباشرة الناتجة عن الحصار، ونقص الغذاء والدواء، وانهيار البنية التحتية—وهي عوامل يرجّح أن ترفع الرقم الفعلي لمجمل الوفيات إلى مستويات كارثية.

 

وفي تصريح حول نتائج البحث، أوضحت آنا سي. غوميز-أوغارتي، الباحثة في معهد أبحاث السياسة الديموغرافية والعضو في الفريق الأكاديمي للدراسة في تصريح صحفي، أن التحليل ركّز على الوفيات المباشرة المرتبطة بالحرب، مؤكدةً أن الأثر الحقيقي أشمل بكثير. وقالت إن تقديرات متوسط العمر المتوقع في غزة وفلسطين تشير إلى تدهور غير مسبوق، وأن ما جرى قياسه “يمثل أدنى تقدير لعبء الوفيات الفعلي”، فيما تبقى الآثار غير المباشرة—كالحرمان الطبي، الأمراض، وسوء التغذية—غير محسوبة بالكامل رغم أنها غالبًا أشد فتكًا واستمرارية.

 

وكشفت الدراسة عن تراجع حاد في متوسط العمر المتوقع في غزة خلال عامي 2023 و2024، إذ انخفض بنسبة 44% و47% على التوالي مقارنة بما كان متوقعًا لولا الحرب. وتُرجمت هذه النسب إلى خسارة تتراوح بين 34.4 و36.4 عامًا من متوسط العمر، وهو مستوى من الانهيار الديموغرافي لا يُسجَّل عادة إلا في سياقات الكوارث الكبرى أو الإبادة الجماعية.

 

كما توصل الباحثون إلى أن التوزيع العمري والجندري (ذكر أو أنثى) للوفيات في غزة يشبه الأنماط المسجلة في صراعات وعمليات إبادة وثّقها فريق الأمم المتحدة المشترك بين الوكالات لتقدير وفيات الأطفال (UN IGME). واعتمدت الدراسة في حساباتها على مجموعة واسعة من بيانات المصادر العامة، بما في ذلك وزارة الصحة في غزة، ومنظمة “بتسيلم” الإسرائيلية لحقوق الإنسان، والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، إضافة إلى وكالات أممية عدة، مستخدمةً منهجية تراعي هشاشة البيانات والصعوبات الميدانية.

 

وتعزز هذه المعطيات ما طرحته رسالة نُشرت في مجلة “ذا لانسيت” الطبية في تموز 2024، التي قالت إنه “ليس من المستبعد” أن يصل إجمالي الوفيات المباشرة وغير المباشرة في غزة إلى نحو 186 ألف شخص أو أكثر. ورغم أن هذا الرقم يبقى تقديريًا وغير مُثبت عبر إحصاء ميداني شامل، فإنه يعكس حجم الدمار الإنساني الذي خلّفته الحرب في مجتمع صغير ومكتظ مثل غزة.

 

وتبرز هذه الأرقام المتصاعدة حجم الكارثة الإنسانية التي يعيشها قطاع غزة، ليس فقط بوصفها حصيلة حرب قاسية، بل باعتبارها حدثًا مفصليًا يعيد تشكيل الواقع الديموغرافي والاجتماعي والسياسي للفلسطينيين. فالمجتمع الذي كان يعاني أصلًا من ضغوط اقتصادية وإنسانية خانقة، تعرّض خلال فترة قصيرة إلى استنزاف هائل في الأرواح، مما أوجد فجوة عميقة في تركيبه السكاني، خصوصًا مع ارتفاع نسب الوفيات بين النساء والأطفال. إن الفقدان المتكرر للجيل الشاب—العمود الفقري لأي مجتمع—يترك آثارًا تمتد لعقود، وتضع مستقبل غزة أمام تحديات وجودية لا تنفصل عن تداعيات الحصار المستمر.

 

كما تشير المقارنات مع أنماط الإبادة الجماعية التي وردت في الدراسات الدولية إلى أن طبيعة القتل لم تكن مجرد “أضرار جانبية” لحرب تقليدية، بل تتقاطع في بعض جوانبها مع مستويات تدمير ممنهج للبنى السكانية. هذا التشابه، الذي يرصده تحليل ديموغرافي مستقل، يعزز مطالبات منظمات حقوقية وخبراء قانونيين بضرورة تحقيق دولي مستقل يحدد ما إذا كانت العمليات الإسرائيلية قد ترقى إلى جرائم إبادة أو جرائم ضد الإنسانية. فالتدمير الشامل للبنية التحتية المدنية—من مستشفيات ومدارس ومحطات مياه—لا يمكن فصله عن الأثر المباشر وغير المباشر في معدلات الوفيات.

 

ويحذر الخبراء أن استمرار الانقطاع الحاد في الإمدادات الطبية والغذائية، إلى جانب انتشار الأمراض وسوء التغذية، يهدد بمضاعفة حصيلة القتلى خلال السنوات المقبلة حتى بعد توقف القتال. وتؤكد الدراسات الطبية والديموغرافية أن الوفيات غير المباشرة عادة ما تتجاوز المباشرة في النزاعات الممتدة، خاصة عندما ترافقها عمليات حصار خانقة. وهذا يعني أن الأرقام المعلنة حتى الآن، على فداحتها، قد لا تمثل سوى بداية كشف حجم الخسائر الحقيقية.

شاركها.