قلنا في المقال السابق حول «قرار مجلس الأمن 2803: ما له، وما عليه!» إننا سنحاول مناقشة مسألة «الوصاية والانتداب» التي ضجّت بها المناقشات التي دارت بُعيد صدور القرار مباشرة، حيث تمّت الإشارة إلى هذه المسألة بالذات، باعتبارها «الخطر» الأكبر الذي يمكن أن يترتّب على وضعه موضوع التطبيق، حتى ولو أن [فحوى هذه الوصاية والانتداب] حُدّدت في نصّ القرار بتاريخ محدّد، وهو العام 2027، وحُدّدت كمشاركة دولية وليس كوصاية، وقلنا، أيضاً، إن هذه المسألة تبدو متناقضة إلى حدّ كبير، وذلك بسبب ارتباطها بمقولة أخرى وهي مقولة التدويل.
سنبدأ هذا النقاش بالسؤال الآتي:
كيف ستتمّ عملية «ترسيم» هذه الوصاية، أو الانتداب؟
أو دعونا نصُغ السؤال على الشكل الآتي:
هل تستقيم مسألة الوصاية والانتداب إذا كانت تعني التدويل، أو إذا كانت غير ممكنة دون المرور بمرحلة جديدة، وهي مرحلة التدويل؟
أو دعونا نصُغ السؤال بطريقة ثالثة:
هل من مصلحة أصحاب هذه الوصاية والانتداب أن تتم عملية التدويل لتحقيق هدفها؟
واضح كل الوضوح أن ثمة تناقضاً كبيراً هنا: فإذا كانت «الوصاية والانتداب» ستمرّ حتماً بآليات التدويل فإن الأخير في هذه الحالة ليس في مصلحة أصحاب المصلحة في الوصاية والانتداب، والسبب معلن ومعروف، وهو أن التدويل يخرج حكومة الاحتلال، بل دولة الاحتلال من المعادلة التي سادت حتى الآن، وهذه المعادلة في جوهرها وفحواها، وفي بُعدها العملياتي، وفي إطارها التنفيذي، أيضاً، هي معادلة التحكّم الحصري من قبل هذه الحكومة الفاشية، ومن الدولة العبرية بالقرار حول مصير القطاع، من كافة الزوايا، بما في ذلك؛ من سيحكم القطاع، ومن هي الجهات «الممنوع» عليها الدخول على خطّ هذا الحكم! إضافة إلى مصير المعابر، ودخول المساعدات، وطبعاً، وقبل كل شيء مصير السلاح والأنفاق، وغيرها من القضايا.
وحتى بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية فإن آليات التدويل، وقوة الدفع الخاصة بهذه الآليات لن تجعل أميركا الجهة الوحيدة القادرة على التحكّم بأسئلة المرحلة القادمة من كل الزوايا، وفي مختلف جوانب وأبعاد واعتبارات هذه الأسئلة!
كما أن تحكّم أميركا بخيوط اللعبة كلها سيحتاج بالضرورة إلى «كبح» جماح الجهات المتضررة من تطبيق القرار، سواء تعلّق الأمر بالمواقف الإسرائيلية المعارضة أصلاً للقرار نفسه، أو تلك المواقف التي تتعلق بآليات تنفيذه، إضافة إلى الجهات الفلسطينية!
تعالوا نأخذ مثالاً ملموساً لتوضيح التناقض على المستوى الميداني المباشر. لو افترضنا أن 5000 أو 6000 من القوات العسكرية التابعة لبعض البلدان، العربية أو الإسلامية، أو حتى الأوروبية قد بدأت تعمل في المرحلة الأولى من تواجدها في منطقة ما وراء ما يسمّى «الخطّ الأصفر» ــ وهو خطّ وهمي حتى الآن ــ وأن هذه القوات قد باشرت بالإشراف المباشر على عمليات رفع الأنقاض، وتأمين حدود أوّلية في إعادة الإعمار على شكل ترميم مبانٍ ومرافق وغيرها، ثم بدأت تفتش عن فوّهات الأنفاق، ثم البحث عن مخازن السلاح، وغيرها من النشاطات التي تتصل مباشرة بمهامها وصلاحياتها كما حُدّدت في نص القرار فإن قوات الاحتلال في هذه الحالة لا تستطيع التحرّك وحدها، وبمعزل عن قرار هذه القوات، أو ستعتبر بلدان هذه القوات أن حركة قوات الاحتلال تعيق وتعطّل حركة هذه القوات، فماذا ستكون النتيجة؟
إما أن تتحوّل مهمة هذه القوات إلى مهمة شكلية، ليس لها صلاحيات تحديد طبيعة التحرّك، ولا الإشراف المباشر عليه، وبالتالي تصبح خارج نطاق السيطرة والتحكم، وينتهي بها الأمر إلى أن تتحوّل إلى قوات «يونيفيل» جديدة، وبصلاحيات «رقابية» وغير تنفيذية، وليس لها أيّ قيمة عملياتية.
وفي هذه الحالة تصبح مجرّد غطاء للعمليات العسكرية الإسرائيلية ليس أكثر، وبالتالي تفقد طابعها الانتدابي، وتكاد تختفي بالكامل كل عناصر ومكوّنات الوصاية برمّتها.
إما أن يحدث هذا كلّه، وفي هذه الحالة الأرجح أن تعود هذه القوات أدراجها إلى بلدانها، أو تبقى في القطاع دون أيّ صلاحيات لا للوصاية، ولا للانتداب، ويتم وضعها في مناطق الهامش الميداني، بعيداً كل البعد عن ما جاء في نصّ، وفي روح القرار الأممي 2803.
أو أن يتم التحكّم، وأن يتمّ الإمساك بالملفّات المختلفة، وأن يتمّ تحت إشرافها المباشر الشروع بالإجراءات المطلوبة في كل مجال من مجالات تدخّلها، وفي هذه الحالة تصبح مسألة التدويل هي المسألة الوحيدة المطروحة على جدول الأعمال التنفيذي لقرار مجلس الأمن، وبالتالي تفقد قوات الاحتلال فرصة تهميش دور هذه القوات، وتصبح المعادلة مقلوبة تماماً، بمعنى يتهمّش دور قوات الاحتلال لصالح تعمّق دور هذه القوات.
وهنا يطرح السؤال الآتي:
لماذا ستوافق دولة الاحتلال في صورة حكومتها الأكثر تطرّفاً وعنصرية، وهي المهزومة والمأزومة والغارقة في عار العزلة الدولية، وفي حالة احتراب داخلي لا مخرج منه ولا شفاء أو تعافٍ من وقائعه الماثلة أمام المجتمع الإسرائيلي، وأمام العالم؟
دولة الاحتلال لن توافق مطلقاً على أوضاع ومعطيات كهذه.
وبالمقابل فهي لا تستطيع بحكم «حاجة» أميركا للاتفاق، وبحكم «خوف» الأخيرة من إعادة انفجار الوضع العسكري أن تتمرّد علناً على هذا الواقع، وهي بعد أن ثبت أنها تعيش حالة «المحمية» الأميركية في هذه المرحلة، وعلى الأغلب أن هذا الأمر سيطول لسنين طويلة قادمة، لم يعد بوسعها أبداً تحديد مسار تطوّر الأوضاع في القطاع إلّا بموافقة أميركا، وبالتنسيق الكامل معها.
التدويل والوصاية في هذه الحالة لا يتعايشان معاً، فإذا حضرت الوصاية والانتداب بطُل التدويل، وإذا تكّرس التدويل انتفت العناصر المكوّنة الرئيسة للوصاية والانتداب.
فإذا صحّ هذا المنطق، وأنا أظنّه صحيحاً، فإن مسألة الوصاية والانتداب، والموجودة في عقل ترامب، وليس في عقل دولة الاحتلال أبداً هي مسألة لا تتعلّق بما تسمّى المرحلة الثانية أو حتى الثالثة من اتفاق وقف إطلاق النار، وإنّما هي تتعلّق أساساً بالمفاهيم التي ستطرح لاحقاً، والتي ذكرت في نصّ القرار الصادر عن مجلس الأمن حول «المسار الموثوق لقيام الدولة الفلسطينية».
هناك، وهناك فقط ستبدأ عناصر فكرة الوصاية والانتداب بالتبلور الملموس، وهناك ستُخاض المعارك السياسية والدبلوماسية حول هذين المفهومين، وهناك سيتم نقل المفهومين معاً إلى الضفة الغربية، وهناك سنرى ــ كما أتوقّع ــ القيود التي ستوضع قبل الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وهناك سنتعرّف على الشروط التي ستكبّل هذه «الدولة» بطريقة لم تشهدها البشرية من قبل، وهناك سنشهد ما أسمّيه منذ الآن الابتزاز التاريخي الكبير، والذي سيكون فريداً من نوعه في التاريخ كلّه.
هذا طبعاً مع افتراض بقاء العرب والمسلمين على هذه الدرجة المنخفضة من عروبتهم، وإذا بقي المسلمون على هذه الدرجة المتدنّية من انتمائهم للإسلام.
وبالمقابل هذا طبعاً سيتمّ إذا بقينا على هذه الدرجة من فقد الوزن والاتزان السياسي الفلسطيني من انقسام واستقطاب يثيران الحزن، ويبعثان على أعلى المشاعر بفقد الثقة بالقيادات الرسمية، على كل الصعد والمستويات، ومن مختلف الأطياف.
وهذا سيتمّ طبعاً إذا بقي المجتمع الدولي على حاله من التذيّل لأميركا، وبقيت الحالة الأوروبية على حالها المزري.
أما إذا سقطت حكومة الإبادة والإجرام، وإذا تخلخل الوضع العربي والإسلامي قليلاً نحو مواقف أكثر مجابهة لدولة الاحتلال، وإذا ما فقد ترامب أغلبيته في الكونغرس، ثم سقط الحزب الجمهوري لاحقاً، وجاء الجناح الشاب والتقدّمي، ورمى بثقله في الإدارة الجديدة، وإذا ما انتهت الحرب في أوكرانيا على النحو الذي تسير عليه، وسلّمت أميركا بالهزيمة الاقتصادية أمام العملاق الصيني، وتمّت في ضوء كل المتغيّرات المتوقّعة حالة استنهاض وطني جديد، فكل شيء سيتغيّر، وفي حينه لن نكون أمام وصاية ولا انتداب، وإنما أمام أوّل اختراق تاريخي للمشروع الصهيوني، وأمام استحقاق أوّل هدف من أهداف المشروع الوطني بقيام دولة فلسطين.
القلق مشروع وضروري، ونتائج الوضع الحالي لها أهمية في رؤية الواقع القادم، وعلى المدى المرئي كلّه، لكن القلق لا يساوي، ولا يوازي اليأس والإحباط.
