تعيش حركة حماس لحظة مفصلية في تاريخها، بعد حرب إبادة ما تزال تدور رحاها، تركت غزة جريحة ومحطمة، والشعب الفلسطيني مكلومًا أنهكته سياسات القتل والتجويع والحصار، فيما المشهد السياسي في حالة غيبوبة واحتضار.
في الحقيقة، لم تعد المعركة اليوم مع الاحتلال فقط، بل مع الزمن، ومع الشرعية، ومع الذات. فالحركة التي لطالما قدّمت نفسها بوصفها رأس حربة المقاومة، تجد نفسها أمام تحدٍ وجودي: هل تظل أسيرة خطابات الماضي، أم تجرؤ على تجديد خطابها، وتوسيع مشروعها، والانفتاح على العالم بوجه جديد؟
لقد أثبتت الحرب الأخيرة، أن العالم لم يعد كما كان. ففي قلب العواصم الغربية، تهاوت الرواية الإسرائيلية أمام سيل من الصور والشهادات والاحتجاجات. الجامعات، الشوارع، النقابات، الأصوات الحرة… جميعها بدأت تنطق بما ظلّ مكبوتًا لعقود: أن فلسطين ليست صراعًا دينيًا، بل مأساة إنسانية، وأن المقاومة ليست إرهابًا، بل حق أصيل في مواجهة القهر.
وهنا تحديدًا تكمن الفرصة، فالتحول الجاري في الرأي العام الغربي لا يُعد انتصارًا تلقائيًا لحماس، لكنه بابٌ موارب يمكن ولوجه إن أحسنت الحركة قراءة اللحظة. وهذا يتطلب قبل كلِّ شيء إعادة بناء خطابها الخارجي. آن الأوان لأن يغادر هذا الخطاب لغته الدينية الحادة، ويتبنى لغة حقوقية – إنسانية، تُخاطب العالم بمنطقه، لا بمنطق الحشد الداخلي. وهذا يفرض على حركة حماس تبني خطابًا يُظهر أنها ليست كيانًا مغلقًا على نفسه، بل حركة تحرر وطني تمثل قضية عادلة، لا جماعة تبحث عن سلطة أو هيمنة.
وفي العمق السياسي، لا بدَّ لحماس أن تعيد تموضعها داخل المشهد الفلسطيني.. فالانقسام لم يضر المشروع الوطني وحده، بل قوّض من شرعية الحركة ذاتها، والحل لا يكون بالشعارات، بل بخطوات عملية تبدأ بالقبول بإصلاح منظمة التحرير، والمشاركة في قيادة وطنية موحدة، والتفاعل مع فكرة حكومة انتقالية تعيد بناء النظام السياسي من أنقاضه.
أما في غزة، فقد آن أوان المراجعة الصريحة، إذ لا يُمكن لحركة أن تطالب العالم باحترامها بينما هي عاجزةٌ عن بناء نموذج حكم يحترم شعبها.
وبناءً على ذلك، فالانسحاب التدريجي من إدارة القطاع لصالح إدارة توافقية لا يُعد تراجعًا، بل نضجًا سياسيًا يُحسب لها، ويعيد تعريف دورها بوصفها حركة مقاومة، لا سلطة أمر واقع.
وعلى المستوى الدولي، فإن حركة حماس تحتاج إلى شجاعة من نوع جديد، مثل شجاعة التواصل والانفتاح على كلِّ الفضاءات الإقليمية والعالمية، فالعالم لا يتغير بالشعارات، بل بالشراكات، والمطلوب اليوم هو تفعيل أدوات جديدة في المواجهة، مثل: الانخراط مع المنظمات الحقوقية الدولية، ودعم المسارات القانونية ضد الاحتلال، مع فتح قنوات حوار غير رسمية مع قوى دولية، وتكثيف التواصل مع الإعلام الغربي المستقل. كما أنَّ تمكين نخب فلسطينية شابة – مقيمة في الغرب – للتحدث باسم القضية من منظور إنساني حقوقي، قد يكون أحد أقصر الطرق لاختراق جدران العزلة.
وبجانب ذلك، ينبغي على حماس أن تطوّر أدواتها الإعلامية. فالمنصات الجديدة ليست ساحة للخطابة، بل لبناء سردية مقنعة، ومن الحكمة أن تركز الحركة على قضايا إنسانية – مثل الحصار، الأطفال، تدمير المستشفيات والمدارس – وتُعيد صياغة صورتها بعيدًا عن الصور النمطية التي يروّج لها أعداؤها.
إن الحركة التي تُصر على الصمود في الميدان، مطالبة اليوم بالصمود أيضًا في معركة الصورة، والسرد، والتحول، وأن تُدرك بأنَّ الزمن لم يعد زمن الصوت الواحد، بل زمن الخطاب الذكي، المتعدد، والموزون.
ختامًا، لن يكون مستقبل حماس مرهونًا بقوة ذراعها فقط، بل بمرونة عقلها، وجرأة قلبها السياسي. فالبقاء في زمن ما بعد المجازر، لا يُمنح للمقاوم فقط، بل لمن يحسن قراءة التحول، ويملك الشجاعة ليبدأ من جديد، دون أن يتنازل عن جوهره.
فهل تكون حماس على قدر هذه اللحظة؟
الفرصة ما تزال قائمة، ولكنها لا تنتظر كثيرًا، ولا بدَّ من اقتناصها.