اخبار

حـول مسألـة الحكـم فـي غــزة…

حـول مسألـة الحكـم فـي غــزة…

2025 Jan,16

 

مع اقتراب التوصل إلى اتفاق طال انتظاره لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، يرفع عن كاهل الفلسطينيين هناك جزءاً من المعاناة الهائلة التي يمرّون بها، تعود مسألة ما بات يُعرف بـ”اليوم التالي”، المتعلقة بالترتيبات القادمة للحكم في القطاع، لتطفو على السطح من جديد. هذا الاتفاق يُنظّم وقفاً مؤقتاً لإطلاق النار، تصاحبه عملية متدحرجة لتبادل الرهائن والمعتقلين، تتم على ثلاث مراحل، يؤمل أن تؤدي في نهايتها إلى وقف إطلاق دائم وإنهاء الحرب. ومع أن هدف إنهاء الحرب سيحتاج خلال فترة الاتفاق المؤقت إلى تحقيق تفاهمات حول الكثير من التفاصيل الميدانية، إلا أن إنهاء الحرب يرتبط أيضاً، وبشكل عضوي، بالتوصل لعقد اتفاق مسبق حول ترتيبات الحكم في القطاع في المرحلة التالية.
أطراف عديدة، دولية وإقليمية وفلسطينية وإسرائيلية، لكل منها منطلقات ورؤى ومصالح متباينة، انهمكت بعد اندلاع الحرب بقليل، بالاهتمام بهذا الموضوع، وفي التفاعل بشأنه فيما بينها. وقد ولّد هذا الاهتمام والتفاعلات مجموعة غير متكاملة من النقاط الإطارية. أول نقطتين تحظيان بتوافق واسع بين الأطراف، وهما، أولاً، إن إنهاء الحرب يتطلّب التوصل إلى وضع أمني في القطاع يحول دون إمكانية تكرار ما حصل في عملية “طوفان الأقصى”. وثانياً، إن عدم تكرار عملية “طوفان الأقصى” يتطلّب إقصاء “حماس” عن حكم القطاع. أما تشكيل الحكم البديل فهو الأمر الذي لم يتم التوصل بشأنه حتى الآن إلى توافق عام. ففي حين تُقرّ حركة حماس بأن الوقائع تدّل على عدم تمكّنها من استعادة سلطتها المنفردة والمباشرة في حكم غزة، وتسعى للتوصل إلى تفاهمات لا تقصيها بالكامل عنه، فإن هدف السلطة الفلسطينية يتمحور حول استعادة حكمها المفقود في غزة، دون انتقاص منه أو مشاركة مع حركة حماس فيه. ولكن إسرائيل المحتلة بقواتها العسكرية للقطاع حالياً، تمانع بشكل قاطع، من خلال حكومتها اليمينية الحالية، أن يكون للسلطة الفلسطينية أي دور ضمن ترتيبات الحكم القادم في غزة، بل تذهب أطراف فيها إلى حدّ المطالبة باستمرار السيطرة الإسرائيلية على القطاع، بل وإعادة الاستيطان اليهودي فيه.
أما الولايات المتحدة والدول العربية المنهمكة بالملف فتمانع استمرار الاحتلال الإسرائيلي العسكري للقطاع، وتريد من إسرائيل الانسحاب منه، ولا تمانع أن يكون بصورة تدريجية، تنتهي مع إخلاء كامل للوجود العسكري الإسرائيلي فيه. بالمقابل، تدعم هذه الأطراف، من حيث المبدأ، مطلب السلطة الفلسطينية بالعودة إلى القطاع، ولكنها من الناحية الفعلية لا تدعم عودة مباشرة لحكم السلطة، كون لها مآخذ عليها، ومطالبات منها عليها الإيفاء بها، قبل إعادة تسليمها السلطة الكاملة عليه. فهي تطالب السلطة الفلسطينية بضرورة القيام بإجراء إصلاحات بنيوية في هيكلها، وتوزيع حقيقي للصلاحيات داخلها. وقد تمثّل ذلك بمطالبة هذه الجهات أن يتم فصل رئاسة السلطة عن حكومتها، وأن يجري تعيين حكومة تتمتع بصلاحية حكم نافذ، تتحمل بموجبه مسؤوليات حصرية واضحة.
ولكن في ضوء عدم تجاوب السلطة الفلسطينية مع هذا المطلب، بذريعة أنه يشكّل تدخلاً سافراً بشؤونها الداخلية، اتجهت الأطراف الخارجية نحو إيجاد بديل يأخذ الاعتبارات الإسرائيلية والفلسطينية، بشقيّ انقسامها، بعين الاعتبار. وكانت النتيجة اقتراح منظومة حكم تتشكل نواتها من لجنة لإدارة شؤون القطاع، والإشراف على عملية إعادة إعماره، تتمتع بصلاحيات الاستقلال الذاتي، ولكن ضمن إطار تبعيتها بصورة عامة للسلطة الفلسطينية، من جهة، وموافقة حركة حماس عليها دون الاشتراك بها، من جهة أخرى. ولتمكين هذه اللجنة من القيام بمهامها، وضمان عدم تعطيل تشكيلها وتسليمها مهامها من قبل إسرائيل، تُسنَد اللجنة بإشراف دولي وعربي، وتُدعَم بالموارد المالية اللازمة للشروع بعملية إعادة التعمير، وبإمكانية تواجد قوات من دول عربية تكون مهمتها المحافظة على النظام. ومع مرور الوقت، وبعد إيفاء السلطة الفلسطينية بالمطالب الخارجية، يتم إجراء توسّعات تدريجية في سيطرتها على القطاع، لتنتهي باستعادتها كاملة، ليكون ذلك ضمن الرؤية العربية المطالبة بإقامة الدولة الفلسطينية وإنهاء الصراع.
مع استعصاء تشكيل حكومة توافق وطني، وافقت حركة حماس على تشكيل لجنة لإدارة القطاع، فرضتها عليها تداعيات الحرب الجارية في القطاع والتطورات التي أصابت الإقليم جرّاء ذلك، ولأنها لن تخسر كثيراً بموافقتها وهي التي لا تزال القوة الفلسطينية الفعلية الموجودة على الأرض، وتتمتع واقعياً بـاستمرار امتلاكها “القدرة المعطِّلة” في تدبير شؤونه. أما السلطة الفلسطينية، فبعد تلكؤ، أعلنت عدم موافقتها على هذا الترتيب على أساس أنه لا ينتقص من صلاحياتها فحسب، وإنما لكونه يتساوق أيضاً مع المسعى الإسرائيلي الدائم لتكريس فصل القطاع عن الضفة، والحيلولة دون إمكانية قيام الدولة الفلسطينية. بالمقابل، استمرت السلطة في مطالبتها أن يمتد حكمها ليشمل القطاع، ولكن دون الموافقة على المطالبات الخارجية بتشكيل حكومة جديدة ذات صلاحية، تكون معززة بتوافق وطني داخلي.
الآن، ومع اقتراب التوصل إلى اتفاق مؤقت لوقف النار في القطاع، وتكثيف التدخلات الخارجية للتوصل إلى ترتيبات لحكم قطاع غزة تُسهم في مسعى إنهاء الحرب، ستواجه السلطة الفلسطينية موجة من الضغوط الممارسة عليها من كل حدب وصوب. وسيكون أمامها خياران للاختيار بينهما: فإما أن تذهب باتجاه تشكيل حكومة تحظى بالمقبولية الخارجية والداخلية، ما يعزز من مطالبتها بسط سيطرتها المتدرجة بشكل سريع على القطاع، أو أن توافق على تشكيل اللجنة الإدارية المقترحة، رغم المخاوف المشروعة بأن تنجم عن تشكيلها شرعنة فصل القطاع عن الضفة. المشكلة المبطّنة في هذا الموضوع هي عدم وجود خيار ثالث أمام السلطة الفلسطينية في حال استمر رفضها للخيارين المطروحين، سوى أن يتم تخطيها بأن تقوم الأطراف الأخرى بتشكيل اللجنة الإدارية دون موافقتها، والبدء باتخاذ تدابير متلاحقة بشأن قطاع غزة بمنأى عنها. إن الاعتقاد السائد في أوساط السلطة بأنه لا يمكن تجاهلها أو تخطيها، وأن التمترس على رفضها سيؤدي إلى اضطرار الأطراف الأخرى إلى تغيير مواقفها، هو اعتقاد أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه مبالغ به. فما الذي تستطيع السلطة القيام به، ويأتي بنتيجة مؤثرة، إن قررت الأطراف الأخرى تخطيها، ومضت قدماً بتعيين اللجنة وبدأت باتخاذ إجراءات فعلية في القطاع؟
هذا يعيدنا إلى ضرورة الاختيار بين الخيارين. الخيار الأول، أي تشكيل حكومة توافق وطني ذات صلاحية، ومع أنه ليس الوصفة السحرية التي ستحّل جميع المشاكل التي تواجه الوضع الفلسطيني البالغ التعقيد، إلا أنه يبقى الخيار الأفضل وطنياً لمواجهتها وعبور هذه المرحلة الخطيرة التي تعصف بالمستقبل الفلسطيني. فهذا الخيار ينهي الانقسام السياسي الذي طال أمده، ويفرض على الآخرين ضرورة احترام الوحدة السياسية الفلسطينية، ويؤهل بسطها على غزة، ما يحول دون تسهيل تحقق الهدف الإسرائيلي بفصل القطاع عن الضفة.
أما الخيار الثاني المتمثل بتشكيل لجنة لإدارة القطاع، بترسيم من السلطة، فهو الخيار الأسوأ بين الخيارين، كونه يفتح الإمكانية لتثبيت تفتيت الجغرافيا الفلسطينية، المفتتة أصلاً. ولكن إن بقي أمر تشكيل حكومة توافق وطني مرفوضا، فلن يتبقى أمام السلطة سوى الموافقة على تشكيل اللجنة الإدارية. في هذه الحالة، يجدر التنويه إلى أن أمر تحصينها من خلال إصدار مرسوم رئاسي بتشكيلها هو أمر جيد، ولكن ليس كافياً وحده، بل يجب، زيادة في التحوّط، أن تتكون عضويتها من فلسطينيين من كافة أماكن التواجد الفلسطيني، من القدس والضفة وقطاع غزة والشتات. فبتشكيل موسّع باختياراته المناطقية، يمكن تخطي، على الأقل، ألا تكون اللجنة الإدارية مناطقية، تتشكل فقط من فلسطينيي قطاع غزة لإدارة القطاع، ما يُسهّل إمكانية أخذ الانطباع عنها والادعاء أنها مستقلة بمنطقتها، واعتبارها وسيلة تقسيم، واستغلالها مستقبلاً لتكريس هذا التقسيم. بمثل هذه العضوية التمثيلية للكل الفلسطيني، تصبح اللجنة إطاراً مجمِّعاً وليس مفتتا للجغرافيا الفلسطينية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *