رسالة المواقف الـمُشَرِّفة

عبد اللطيف علي الفكي
يقول برتراند رَسِل (١٨٧٢١٩٧٠) “لقد كتبتُ سلفاً رسالة إلى آينشتاين لأعلم إلى أي مدى تتجانس أفكاره مع خُطتي التي تدعو إلى وقف التسلح النووي. فأجاب عنها بحماس. لكنه أفادني أن صحته لا تسمح أن أقوم بقدر الالتزامات التي تنضح بها خطتي. فهو لا يقدر أبعد من أن يُرسل أسماء العلماء الذين يأمل فيهم أن يساندوا خطتي. وترجاني أن أُروّج أفكاره قَبولاً بهذه الخطة بالصياغة الملائمة التي أراها. وقد فعلت ذلك من خلال اللقاءات الإذاعية التي أُتيحَتْ لي. بعد رسالته تلك قمتُ بترتيب قائمة العلماء من الشرق والغرب كليهما ، وكتبتُ لهم مضمناً إفادة الخطة قُبيل أن أذهب إلى روما مع بعض الأعضاء البرلمانيين. وفي تلك الأثناء أرسلت بالطبع إفادة الخطة إلى آينشتاين ليعتمدها توقيعاً. لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، ففي أثناء رحلتي من روما إلى باريس أعلن كابتن الطائرة أن العالِم المشهور آينشتاين قد تُوُفِّيَ. ارتعش جسمي وشعرت بالانقباض، ليس لأنني لصيق به ، بل شعرتُ أن خطتي قد انهارت دون توقيعه. وحين وصلتُ الفندق في باريس ، وجدتُ رسالةً منه مُوَقَّعة بتوقيعه وموافقاً كل الموافقة على الخطة. هذه كانت آخر التزاماته في العمل العام الذي يهم البشرية” (ص ص ٩٣٩٤).
دعونا أن نخطو مع برتراند رَسِل في باريس من فندقه إلى مقر جمعية الحكومة العالمية ، حيث اجتماع هؤلاء العلماء من الشرق والغرب. وذلك دون أن نسأله ما هي خطتك؟ ودون أن نزحمه كما زحمه الصحفيون يسألونه أن يوضح لهم أكثر فأكثر عن موقف آينشتاين. لا يريد رَاسِل أن يحصر الإعلام انتشاره في هذا الموقف النبيل دون التركيز على الخطة نفسها. وحين خطا رَاسِل نحو مقر الجمعية ، تناقش مناقشة طويلة مع العالِم فريدريك كوري الذي رحَّب بالخطة ترحيباً شديداً ، وقَبِلَ إفادتها. لكن اعترض على بعض أسلوب تلك الإفادة. لأنني قلت “إنها من المخيف حقاً إذا ما اُسْتُخْدِمَتْ تلك القنابل ، فسوف يعم الموت. أما الذين يموتون فجأة دون عذاب فهم محظوظون ، لكن الأغلبية سيغشاهم عذاب مرض بطيء عضال” (ص ٩٤). فاعترض وصفي للأقلية الذين يموتون فجأة هم محظوظون. فقال لي “أن تموت هو فعل لا يُوصَف صاحبه كونه محظوظاً” (نفسه ، الصفحة نفسها). قام رَاسِل بحذف تلك العبارة. بعد ذلك عاد إلى لندن. وأراد أن يُعلم كوري بذلك التعديل ، وحين علم بمرض كوري وحالته التي لا تسمح بالمقابلة ، تمت الاتصالات والتنسيقات مع العالِمة زوجته مدام كوري.
بدأ ذلك النشاط المكثف عندما نشر رَاسِل مقالاً بعنوان ’ماذا تستطيع أمريكا أن تفعل بالقنبلة النووية‘ في عام ١٩٤٥م. وفي نوفمبر نفس العام ألقى كلمة في دار اللوردات عن التسلح النووي قائلاً “بعض الآليات المماثلة للقنبلة النووية اليوم قد تُستخدَم لدرء الانفجار العنيف الذي ربما يحدث بفضل تركيب العناصر الثقيلة للهيدروجين. فهذه الآليات قد تسد مسد التسلح النووي لو كانت حضارتنا العلمية مكتوب لها الاستمرار. غير ذلك سوف تحد الحضارة الدمار التام. ولكن يقيني أن كل ذلك قد يُمنَع حدوثه” (ص ٧٢). لقد كانت خطة رَاسِل هو حشد العلماء للتوقيع ضد التسلح النووي.
يسأله روبرت ويتمان في لقاء معه “هل هناك أي مبرر للتحذير من الفكرة التي تقول إن هناك سوء حسبان مدمر قد يحدث إذا خضعت القنبلة الهيدروجينية للاختبارات”؟ يُجيب “من الواضح أنه سيأتي زمنٌ قد تصبح فيه هذه التجارب خطيرة ، لكن لا أظن أننا قد وصلنا هذه النقطة. إذا كانت هناك حرب قنبلة هيدروجينية ، فإن كل فرد في لندن سيلقى حتفه. حمَّام من القنابل الهيدروجينية سيجعل مساحات واسعة من الأراضي الزراعية بلقعاً خراباً بكل تأكيد. والنتيجة مجاعة لا يُحمَد عقباها. نحن الآن نتحدث إلى الاختبارات الجارية الآن. وحديثنا في زمن السلام. ولا أتوقع حدوث كارثة منها. وأعتقد أن هؤلاء الذين ينخدعون بالنشاط الإعلامي عبر الراديو سوف تتحطم آمالهم. لكن الكثير من الناس لهم الحق في شكواهم. إننا نرى أن تجارب الانفجارات في البحار قد أثرت على الحياة البحرية تأثيراً كبيراً. وهي الآن تتأثر بتلوث الزيوت ، وهو تلوث أقل درامية مما نحن مقبلون عليه”. سؤال آخر “هل تظن أن شعوراً بالهلع واللايقين يعشِّشُ في أذهان الناس ، وقد يؤدي هذا الشعور إلى حس اجتماعي شِرِّير”؟ يُجيب “حسناً ، ليس هو بالتأثير الذي يستمر طويلاً. فكما حدث مع القنبلة النووية في البداية ، دخل الناس في حالة. لكن سرعان ما تناسوها بعد قليل. أما إذا تعاظمت الأزمات بصورة متكررة ، فإن الوضع يختلف. في حقيقة الأمر ، التفكير في التعرُّض للخطر هو شيء فظيع ، ولكن مع ذلك لا ينقطع الناس عن آداء أعمالهم. قد تلاحظ أنت أنه منذ تفجير القنابل النووية الأولى ظل ارتفاع معدل الولادة مستمراً. هذا اختبار يُعوَّل عليه. ولكنني أأكد القول أن الخوف من البطالة وهو خوف يعرفه الجميع له تأثير اجتماعي أكبر من الخوف من القنبلة النووية”. (ص ٣٣).
“ماذا عن التأثيرات الدَّوْليـَّـة؟ هل الأمر عندك أننا وصلنا استراتيجية لا فكاك من التورط فيها؟ هل هناك الآن قاعدة جديدة للتشاور والمناقشة بين روسيا والغرب”؟ يقول رَاسِل “أعتقد أن وجود القنبلة الهيدروجينية هو البديل الواضح الأضبط عند كل حكومات العالم. فإما تسليم هذه الحكومات أمرها لشرعية دَوْلِيَّة أو فناء العِرْق البشري. فالخوف كل الخوف أن الكثير من الحكومات ومعظم الأفراد أن يرفضوا مواجهة هذا البديل. إنهم يكرهون فكرة الحكومة الدَّوْلِيَّة بالتواء المسألة قَدْرَ استطاعتهم. اِسأل أي شخص بريطاني في الشارع ما إذا كان يقبل أن يكون جزءاً من سلاح البحرية البريطاني تحت إمرة الروس ، سوف يقف شعر رأسه. فالقنبلة النووية توقف شعر رؤوسنا جميعاً”.
وفي سؤاله قبل الأخير قال له روبرت ويتمان “ألا ترى أنه ليس هناك أي ضمان عند كل اقتراح يعِدُ بوقف التجارب النووية”؟ يُجيب “ليس مطلقاً ، ما لم نجد طريقة تجعل الاتحاد السوفيتي يوقف التجارب. ففي رأيي هناك طريقة واحدة هي أن نُقنع السوفيتي بأنهم لا يستطيعون أن يجعلوا العالم كله شيوعياً بالقنبلة النووية. القادة السوفييت قد شعروا بذلك. فمن الدلالات الإيجابية أن هؤلاء القادة قد أفصحوا لشعوبهم أن الدمار سيحل إذا نشأت حرب نووية. يجب أن نستعجل الأمر. سأدعو كل حكومات العالم، وعلى وجه الخصوص حكومة الاتحاد السوفيتي لإرسال مراقبين لمشاهدة نتائج التجارب الأمريكية. هذه الخطوة يجب أن تُنجَز قدْرَ الإمكان. فليس في الإمكان أبدع من هذه الخطوة. وهناك أمر لا بد من عمله ، ألا وهو التقليل من إسهابات التيار المضاد للشيوعية. وهو الذي نراه الآن قد بدأ بالفعل. علينا أن نعمل جادين مثابرين في العودة إلى الأخلاق العالمية الحميدة. إنها المساعدة الكبرى التي تمنحها لنا أخلاقنا”.
وفي سؤاله الأخير “متى سيقتنع الروس بذلك”؟ يُجيب “أعتقد يجب علينا أن نقلل من التوتر ، وهذا شيء ممكن. لم يصدر من جانبهم تهديداً بحرب نووية. لذلك فالخطوة الحاسمة هي أن يكون الانشطار وجميع الإجراءات تحت شرعية دَوْلِيَّة. فلا أحد ولا أُمَّـة لها الحق في امتلاك هذه المواد الانشطارية. علينا قيام هيئة تفتيش دَوْلِيَّـة للتأكد من تفعيل هذا القانون. فالروس لهم خوف مَرَضي من التفتيش. ونحن نستطيع أن نحررهم من هذا الخوف. ولكن إن لم يتفقوا عليه لا شيءَ سيؤثر عليهم. على كُلٍّ ، طالما ليسوا وحدهم الذين سيجرون اختبارات قنبلة هيدروجينية ، فإن ذلك سيقنعهم. فيوم الاتفاق هو الذي سيضع حداً لهذه الاختبارات. إننا نريد هذا الحد ، ولا نريد التطويل في الإجراءات والنقاشات. فلو فُعِلَ هذا الحد ، فإن الاتفاق الحيوي سيكون فعَّالاً ومشهوداً. هذا كل ما أستطيع الإجابة عنه” (ص ص ٣٥٣٦).
بدأت مراسلات رَاسِل تتكاثف منذ عام ١٩٤٨م إلى أصدقائه العلماء الأمريكيين ، وعلى وجه الخصوص صديقته لوسي دونيلي ، وجمعية الكومنويلث قسم هولندا. أبدى رئيس هذه الجمعية الدكتور فان دي كوبيلو وسكرتيرها العالم الدكتور فورتوين ارتياحهما لمحاضرات رَاسِل عبر رسالة بعثاها له بتاريخ أكتوبر عام ١٩٤٧م. يقولان “إنها لحظات لا تُنسَى حين سمعنا حديثك حول قضية الحرب والسلام” (ص ٦١). هناك عقبتان وقفتا أمام مانفستو رَاسِل ، حين تردد العلماء الروس ، وكذلك العلماء الأمريكيون في أن يوقعوا على هذا المانفستو ومن جانب آخر تردد كذلك اللورد آدريان رئيس جمعية الرويال وعميد الكلية التي يعمل فيها رَاسِل نفسه في جامعة ترينتي. مجموعة العلماء الروس والأمريكيين كانت حجتهم أن ذلك مُضَمَّن في إعلان ميناو للعلماء. وحجة اللورد آدريان أن المانفستو ينضح بأسلوب بلاغي كبير. (ص ٩٥).
كان رَاسِل أثناء ذلك يُلقي حديثاً في البي بي سي بعنوان “الخطر الذي تتعرَّض له البشرية”. وقد سُرَّ رَاسِل أيما سرور حين علم أن جامعة ترينتي قد احتفظت بمخطوطة هذا البرنامج. بعد سماع هذا البرنامج وصلت لِرَاسِل رسائل علماء غرب أوروبا وقد وافقوا جميعاً على المانفستو. بدأ رَاسِل رحلاته المستمرة إلى روما وباريس وإسكتلندا. وتتخلل تلك الرحلات بعث رسائل وكتابة مقالات هنا وهناك ونقاشات وأحاديث. وأجريت معي عدة لقاءات. لقد جمع كل ذلك الأمريكي آر سي مارش في كتاب بعنوان ’المنطق والمعرفة
Logic and Knowledge‘.
يقول رَاسِل “في تلك الظروف القاسية تعقدت أعباء أسرتي وهم يهمون بقضاء إجازة في نورث ويلز” (ص ٩٥).
في عام ١٩٥٠م زار رَاسِل أستراليا بدعوة من المعهد الأسترالي للشؤون الدَّوْليَّة. قدَّم محاضرات عن الحرب الباردة. وبعد هذه الزيارة ذهب إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وفي برنستون قابل أصدقاءه القدامى ومن بينهم آينشتاين. “وهناك علمتُ بالأخبار التي تقول إنني نلت جائزة نوبل” (ص ٢١). وفي أثناء إقامته في الولايات المتحدة الأمريكية قال في إحدى محاضراته : “المطلب الأول الذي نريده هو غياب الدوغمائية. فالدوغمائية هي التي دائماً تقود إلى الحرب. هناك أشياء معينة يحتاجها عصرنا ، وهناك أشياء معينة يجب أن نتجنبها ونتخلص منها. إن عصرنا يحتاج إلى العاطفة والرغبة اللتين تجعلان البشرية في غاية السعادة. إن عصرنا يحتاج الرغبة أجل تحقيق المعرفة وتحقيق إبعاد وإقصاء الأساطير المفرحة. وفوق ذلك ، نحتاج إلى الأمل الشجاع والإبداع الخلاَّق. والأشياء التي نتجنبها هي تلك التي تقود نحو شفا الكارثة. إنها ليست شيئاً سوى القسوة والحسد والجشع والمنافسة والاتكال على يقين ذاتي غير عقلاني. وما يطلق عليه فرويد الرغبة في الموت” (ص ص ٢٣٢٤).
في السنوات الخمس التي تلت كل ذلك بدأ المانفستو ينتشر انتشاراً واسعاً. وعلى وجه الخصوص حين تعرَّف رَاسِل على محرر الأوبزيرفر. يقول رَاسِل “يبدو لي أن الأمر يحتاج إلى مواصلة الانتشار والتأييد وجذب الانتباه لما كل ما فعلته. لذلك ، قررتُ أن أجعل لي مستشاراً خبيراً. تعرَّفتُ على محرر الأوبزيرفر معرفة طفيفة. لكنني وجدته رجلاً ليبرالياً خدوماً حدَّ الحماس. دعا زملاءه لمناقشة الأمر فوافقوا جميعاً. وارتضوا أن تكون المسألة أكبر من نشر الحقيقة التي يتضمنها المانفستو الذي وقَّعَه حتى الآن عددٌ كبير من العلماء البارزين من جميع الأيديولوجيات. فاقترحوا قيام مؤتمر صحفي تُقرَأ فيه الوثائق وأجيب عن الأسئلة التي تثيرها هذه الوثائق. فقاموا بترتيب عقد هذا المؤتمر وتمويله. تقرر عقده في التاسع من يوليو عام ١٩٥٥م . حجزوا له قاعة في صالة كاستون قبل أسبوع. أُرسِلَتْ الدعوات لكل محرري الصحف ، وكذلك لممثلي الصحف الأجنبية ، والبي بي سي ، والتلفزيون في لندن. أصبح العدد صخماً ، فقررنا تغيير القاعة إلى قاعة أكبر في نفس الصالة” (ص ٩٦). أثناء ذلك الأسبوع قبل انعقاد المؤتمر الصحفي كان جرسا التلفون والباب يرنان طول اليوم. كثير من الصحفيين طلبوا دعوات لهذه الأخبار المهمة المتوقعة. ولمدة ثلاث مرات يومياً يأتي شخص من الديلي تلغراف ليقول إن صحيفتهم لم تستلم أية دعوة (ن. ص ٩٦) ولثلاث مرات كنت أخبرهم أنهم مدعوون ، لكن يبدو أنهم غير مصدقين أن المانفستو يدعو إلى التعاون بين العالمين الشيوعي وغير الشيوعي” (ص ص ٩٦٩٧).
في هذا الأثناء كان أشد ما يؤلم رَاسِل هو أن البروفسور فريدريك كوري لم يستطع أن يوقع نسبة لمرضه. اتصل به رَاسِل وجعل هامشاً في المانفستو يشمل اعتراض كوري. بعد ذلك وافق كوري ووقَّعَ على المانفستو. بدأ العلماء يتقاطرون من جميع أنحاء العالم. أخبرهم رَاسِل أن بعد توقيع آينشتاين لا يمكن أن نغير من صيغة المانفستو ، لذلك سنجعل لكل آرائكم هامشاً يحمل رأي صاحبه من العلماء. بدأ رَاسِل يبحث عن عالِم فيزيائي يدير معه المؤتمر. لأن هناك حسب رأيه أسئلة تنتج عنها إجابات تقنية بحتة تحتاج لمن يشرحها للحضور وهو غير مُلِم بها. وجد أخيراً البروفسور جوزيف روتبالت الفيزيائي البارز في الكلية الطبية مستشفى سينت بارثولوميو.
كانت القاعة تكتظ بالحضور. تحفها كاميرات التلفزيون. الطاولة مليئة بسماعات الإذاعات المختلفة. قدَّمَ مُقدِّم المؤتمر رَاسِل الذي وضَّح الجهود التي أدت لولادة هذا العمل الكبير ، ثم بعد ذلك قرأ المانفستو وأسماء الموقِّعين. كتب رَاسِل بعد نهاية المؤتمر معلِّقاً “بالطبع كان العقل الصحفي منبهراً بالطريقة الدراماتيكية التي وصل بها توقيع آينشتاين. مما جعلهم فيما بعد أن يطلقوا على المانفستو: مانفستو رَاسِل آينشتاين ، وأحياناً مانفستو آينشتاين رَاسِل. وبمواصلة الاجتماع الذي استمر أكثر من ساعتين ونصف بدأ الصحفيون أكثر حماسة مما كانوا عليه في البداية ، ما عدا صحفي أمريكي كان يعتبر أنني أهنت بلده في ردِّي لسؤال من الأسئلة. لقد انتهى الاجتماع بآمال واسعة وحصيلة جديدة هي أن العلماء يمكن لهم أن يعقدوا مؤتمرات صحفية في لقاء مباشر مع الجمهور. تبيَّن لي بعد نهاية الاجتماع وعودتي إلى منزلي أنني وقعت في خطأ فادح. وذلك عندما فات عليَّ أن أعلن اسم البروفسور ماكس بورن الذي كان متحمساً للفكرة منذ بدايتها ، وساعدني مساعدة مخلصة. اعتذرت له من ذلك الخطأ. إنه رجل كبير الأخلاق وصديق صدوق” (ن. ص ٩٩).
بعد ذلك المؤتمر سافر رَاسِل إلى باريس لحضور مؤتمر الحكومة العالمية. عقب المؤتمر كانت هناك دعوات لحفلات عشاء كثيرة. “في واحدة من هذه الدعوات خرجتُ إلى الحديقة. سرعان ما أُحِطْتُ بمجموعة من النساء اللائي يعتقدن أن النساء يجب أن يفعلن شيئاً خاصاً للحدّ من نطاق الحرب النووية. إنهنَّ يرغبن أن أدعم هذه الخطوة. لقد كان في بالي أن أي شخص يجب أن يفعل ما في استطاعته لمنع والحد من هذا الصراع النووي. لكنني لا أفهم لماذا لا يعمل الإنسان غضّ النظر إلى النوع للحد من ذلك الصراع. ففي حدود خبرتي أن الآباء مثل الأمهات تماماً في العناية بأمور المنزل. كانت زوجتي واقفة على الشرفة المطلة على الحديقة. سمعتْ علو صوتي فجأة. فيما بعد تدخل أحدهم وامتثلتُ له تماماً حتى ينقذني من الموقف” (ص ص ١٠٠١٠١).
بعد نهاية مؤتمر باريس في نهاية يوليو ، عادوا إلى ريشموند لعقد كونغرس آخر. لأن البرلمانيين اقترحوا لقاءً يجمع بين علماء الشرق والغرب. جاء علماء الاتحاد السوفيتي من أكاديمية موسكو. يقودهم الأكاديمي توبجيف “الذي بدأتُ أحترمه احتراماً كبيراً” (ص ١٠١). لقد كان هذا أول اجتماع يحضره الروس في الغرب بعد الحرب. بعد مباحثات طالت اليومين بدأ علماء موسكو يتفقون مع علماء الغرب. كان العمل كبيراً يتعدّى أيام إجازات نهاية الأسبوع. لقد عمل بروفسور روتبالت وبروفسور باويل عملاً كبيراً في ناحية صياغة مانفستو العلماء. وتزداد غبطة رَاسِل وهو يرى حضور ومشاركة بروفسور كوري رغم مرضه. لقد كان يشارك في وضع الخطط اللازمة لنجاح هذا العمل ، ويشجع على تحقيقه بكثير من الأمل. كان رَاسِل يريد مشاركة علماء الهند في هذا المؤتمر ، لذلك حين زار نهرو لندن في فبراير ١٩٥٥م ، قابله رَاسِل وتناول معه الغداء. أخبره بعد عدة لقاءات بفكرة المؤتمر. رحب نهرو بالفكرة. “نهرو نفسه تمتلئ جوانحه عطفاً. لقد كان صديقاً في غاية الصداقة” (ص ١٠٢). “لكنني حين قابلتُ الدكتور باهبا القائد الرسمي لعلماء الهند ، في نهايات زيارة نهرو ، شعرتُ أنه غير متحمس. لقد كان يشك ويرتاب حول أي مانفستو. إنها شكوك ليست عابرة ، بل متجذرة. فتبخر كل ما أمَّلتُ فيه أن يشمل المؤتمر المزمع قيامه علماء الهند” (نفسه).
في عام ١٩٥٦م بدأ رَاسِل يجهز لعقد المؤتمر في نيودلهي بعد موافقة الحكومة الهندية ليكون في العام القادم. يقول رَاسِل “في خلال الجزء الأول من عام ٥٦ جهزتُ كل الخطط تجهيزاً متقناً. وفي منتصف السنة نفسها أرسلت الدعوات باسمي إلى ستين عالماً. لكن عام ٥٦ هو عام التفاصيل التي صرفتني من المهمة الأساسية بالنسبة إليَّ. لقد أخذت الأحاديث في الإذاعة ، وكتابة المقالات ، وتيار لا يتناهى من الأصدقاء والمعارف يجئ ويذهب. كلها كانت عائقاً. أضف إلى ذلك بعنا البيت في رشمونت لنسكن نهائياً في نورث ويلز. وقبل ذلك التحول سكنا سكناً مؤقتاً في شقة صغيرة في ميلبانك. لقد أصبح واضحاً أن التمويل سيعيق قيام المؤتمر في الهند. ويصعب كذلك بل من المحال نقل علماء الغرب ليصلوا إلى الهند في يناير ٥٧. علينا أن نعيد الخطوة للخطوة التالية” (ص. ١٠٢).
بدأ رَاسِل يعمل على أن ترعى المؤتمر جهة مستقلة. ولكنه لم يجد ذلك في إنجلترا. يقول رَاسِل “استلمتُ رسالة رقيقة جداً من سايروس إياتون في أمريكا. ذكر لي أنه سيمنحهم تمويلاً على أن يُعقَد المؤتمر في بقووش مسقط رأسه. بجانب ذلك أبدى لي أرسطو أوناسيس الرجل الإغريقي الثري أنه سيموّل المؤتمر. بدأنا نخطط عملياً في التنفيذ. كان ذلك تحت رعاية بروفسور روتبالت وبروفسور باويل والدكتورة باتريشا الفيزيائية في كلية سينت بارثولومياو الطبية. وهي التي كرَّستْ نفسها ، ونظمت حياتها الخاصة وفق أن يتم هذا العمل” (ص ١٠٧).
انعقد المؤتمر في يوليو ١٩٥٧م في النمسا ، وافتتحه الدكتور أدولف اسجيف رئيس النمسا. لم يتمكن رَاسِل من الحضور لمرضه. لقد تعرَّض إلى عدَّة فحوصات نتيجة ورم في الـحُنْجَرة. وفي نهاية الأمر كان ورماً حميداً. وفي أثناء نقاهته يشير رَاسِل “شعرتُ من اللازم أن أقوم بواجبي ، ولو النزر اليسير. سأدخل في سياسات القوتين العظمتين: الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية. كتبت رسالة مفتوحة للرئيس ايزنهاور والرئيس خروتشوف. خاطبتهما بوصفهما السيدين اللذين لهما أكثر سلطة ناجزة فعَّالة. في عام ٥٨ “كان يحدوني أملٌ طفيف أن هاتين القوتين ستصلان إلى التعقُّل. لذلك أطلقتُ هذا الأمل اليسير ليصير أمامهما” (ص ص ١٣٨١٣٩). ردَّ عليه خروتشوف في الحال ، وردَّت أمريكا بعد شهرين. وفي عام ١٩٦٠م تحقق اجتماع بين الرئيسين.
هذا الاجتماع بين الرئيسين كان الدافع الرئيس له هو مؤتمر بقووش الثاني الذي عُقد في عام ١٩٥٨م. حضر هذا المؤتمر عشرون عالماً من أمريكا والاتحاد السوفيتي والصين واليابان وبولندا وأستراليا وكندا ، وفرنسا ، وبريطانيا ، والنمسا. حضر رَاسِل هذا الاجتماع. جاء إليه سائقاً سيارته مع أسرته. ترأس رَاسِل الاجتماع. كانت الاجتماعات تُعقَد باللغتين الإنجليزية والروسية. أُطلِق على هذا المؤتمر ’مؤتمر بقووش للعلماء‘. ووصل المؤتمر إلى قرار أن يشمل العلماء علماء بيولوجيين وعلماء اجتماع. يقول رَاسِل “لقد كان من دواعي سروري أن أرى تعاوناً حقيقياً بين العلماء كما كنا نأمـل ، وذلك بالرغم من التنوع الأيديولوجي والعلمي في مجال الفيزياء” (ص ١٠٨). تبع ذلك انعقاد سبعة مؤتمرات حتى عام ١٩٦٢م في لندن. حضره علماء من كل العالم.
يقول رَاسِل “لقد رُعِبْتُ حين سمعتُ زوجة روزفلت السيدة بوثي على التلفزيون. تعتقد أنه من الأحسن أن تُدَمَّـر البشرية من أن تخضع البشرية إلى الشيوعية. لقد اعتقدتُ أنني لم أسمعها جيداً ، لكنني حين قرأتُ ملاحظتها في صحف الصباح التالي تيقنتُ أنها هي التي أفصحت بهذا الرأي الخطير” (ص ص ١٤٦١٤٧).
في بدايات الإعلان لِ CND وهو اختصار لعبارة
Campaign for Nuclear Disarmament
التي بدأت رسمياً عام ١٩٥٨م بعد نجاحات مؤتمر بقووش الأول والثاني. لقد انتشر الإعلان في جميع أنحاء الولايات المتحدة ، وكندا ، وأستراليا ، وأوروبا واليابان. في أواخر العام نفسه دعوتُ إلى تجمُّع في ميدان ترافالقر الذي يقع في وسط لندن. يصف رَاسِل ذلك اليوم “كان الصباح داكناً وبارداً ، ولو هطلت أمطار ، سيقل العدد. لكن حين تجمعنا ، امتلأ الميدان ازدحاماً. لقد فاق العدد ٢٠٠٠٠. وفي نهاية أحاديثنا سيَّرنا موكباً متجهين نحو وايتهول مبنى الحكومة ، تتقدمه لجنة السي إن دي. كان الموكب صامتاً يسير فيه أكثر من ٥٠٠٠. وفي نقطة ما من سيرنا اعترضنا لأننا تسببنا في تعطيل حركة مرور السيارات. أخيراً نجحنا في أن نتحلق حول المبنى ونحن على رصيف المشاة. ظللنا هنا مدة ساعتين. كان الوقوف متيناً صامداً صامتاً. جاء الإعلام ليسألنا عن محتوى إعلاننا ومطالبنا. اتفقت أنا ومايكل اسكوت وشومان أن نظل بجانب باب الوزارة. علمنا فيما بعد أن الحكومة أصدرت أوامرها لسيارات المطافئ لتفرقنا مستعملةً خراطيم المياه. ولحسن الحظ رفضت مصلحة المطافئ ذلك. بعد ساعات دَعَوْنا الوقوف أن يجلسوا. لقد فاق التظاهر تصوراتنا ، إذ سريعاً وصلت الرسالة للمسؤولين. لكن مع ذلك ، بدأت الحكومة وأفراد من الشرطة يتجسسون علينا” (ص ١٥٤).
بعد شهر من تلك المظاهرة جاء رجل أمن إلى منزل رَاسِل ودفع له ورقة المثول أمام المحكمة في شارع باو. كان الإجراء ضده وضد زوجته هو إثارة الشغب العام. لما وصلا إلى المحكمة ، سبقتهم أعداد كبيرة من الناس المبنى ، وتجمهروا هناك داخل وخارج القاعة. بدأت المحكمة ؛ وعندما نطق القاضي بالحكم ’شهرين سجناً‘، ضجت القاعة في وجهه في الداخل ومن الخارج “عيب يا قاضي ، إنه رجل في الثمانين”. يقول رَاسِل “أول مرة أركب البلاك ما رياس وهو سيارة تحمل المساجين إلى السجن . ظللتُ في جناح مستشفى السجن ، والجو السائد كان سيئاً جداً. لقد أمررت إلى اللجنة وريقة كتبتها في السجن حاثاً أن يتجمعوا في نفس الميدان” (ص ١٥٥ وص ١٥٩). مما عجَّل ذلك الضغط أن يُطلَق سراح رَاسِل ورفاقه بعد ليلتين من نطق الحُكْم.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة