إحصاءات نتائج سنتين من العدوان مخيفة ومرعبة بكل المقاييس، نحو ربع مليون إنسان بين قتيل وجريح ومفقود.. جميع سكان القطاع يعانون من صدمات نفسية، ويكابدون ويلات الحرب وتداعياتها الخطيرة، يعيشون ظروفاً قهرية بائسة لا تصلح لحياة البشر.. فضلاً عن حجم التدمير المهول، وفوق كل هذه الخسائر المنظورة الكارثية، والتي لا تعوض، ثمة خسائر غير منظورة.
الحرب شوهت نفسيات الكثيرين، وأخرجت أسوأ ما فيها.. ظهرت فئات جديدة لم نكن نعلم عنها، ولا نتوقع وجودها.. في كل مرحلة، وفي كل مكان يظهر تجار الحرب، الأشخاص الذين كانوا قبل الحرب أناساً طيبين فجأة تحولوا إلى سماسرة وصاروا يمارسون الاستغلال بأبشع صوره: من لديه قطعة أرض بور صار يؤجرها بأثمانٍ باهظة، من لديه شقة أو حتى غرفة يستغل حاجات النازحين وضعفهم، من يمتلك شاحنة أو كارة صار يطالب بمبالع خيالية مقابل توصيلة لا تكلفه 5% من المبلغ المطلوب، محال الصرافة وتجار العملة صاروا يتقاضون عمولة تصل إلى 50% من قيمة المبلغ، بعض أصحاب العمارات يحاولون بكل قسوة طرد النازحين من محيط ممتلكاتهم، مجموعات عديدة صارت تمتهن سرقة المساعدات وبيعها بأسعار فلكية، بعض التجار صاروا يخزنون بضائعهم ويعرضونها كأنها بورصة بأرباح تتجاوز عشرات ومئات أضعاف قيمتها، حتى أصحاب بسطات لا يكتفون برفع الأسعار بل يتقاضون أرباحاً مضاعفة من خلال التفريق بين البيع بالكاش والبيع عن طريق التطبيق، وآخر ما اخترعوه شراء العملات الورقية بنحو 70% من قيمتها مقابل تبديلها بالعملة المعدنية، فضلاً عن رفض التعامل بفئات ورقية معينة.. بعض المستشفيات تتقاضى أجوراً مقابل علاج مصابين وجرحى من جراء القصف.. حتى دفن الشهيد صار يكلف نحو ألف شيكل وأكثر.
صار الاستغلال السمة الأكثر شيوعاً (دون تعميم)، وأي شخص يفتش عن أي فرصة لاستغلال الآخرين.. صراع البقاء صار القانون السائد، اختفت الرحمة أو كادت.
كل هذا في إطار التعاملات اليومية (الاستغلالية) التي صارت عادية وعلنية.. دون الحديث عن التعديات والسرقات والنهب والاعتداء بالضرب والأسلحة المتوفرة، وحتى جرائم القتل وانتشار العصابات وقطع الطريق، والانفلات الأمني؛ حيث ممارسات المجموعات المسلحة بعضهم ملثمون وبعضهم مكشوفو الوجه، يعتدون بالهراوات، يكسرون الأطراف بلا شفقة، يطلقون الرصاص على الركبة (لخلق عاهة مستديمة) أو بهدف القتل، وتنفيذ حفلات إعدام جماعية خارج نطاق القانون، يهددون كل من يعارضهم، أو يستقوون على الضعفاء بحجة أنهم لصوص أو جواسيس، دون تحقيق ولا محاكمات، مجرد الاشتباه أو بسبب خلاف عائلي، أو حزبي.. ويتركون تجار الحرب، أو يشاركونهم أرباحهم.
المواطنون، والمثقفون، وحملة الشهادات العليا، والموظفون، والعمال وأصحاب الحرف والمهنيون والطلبة ومعلموهم ومن كانوا أغنياء أو متعففين.. تحولوا إلى مسحوقين يبحثون عن خيمة، أو كرتونة مساعدات، أو كارة تحمل متاعهم في مسيرة نزوح نحو المجهول، في رحلة عذاب لا تنتهي.
ليس المقصود هنا نشر صورة مشوهة عن حال المجتمع اليوم، لكن هذا هو الواقع بكل سوئه، هذه هي الحقيقة العارية، واقع غزة الحزينة.
نقولها بكل أسف وقهر وببالغ الحزن.. السؤال الأشد مرارة: كيف وصلنا إلى هذه الحالة المزرية؟ من أجل ماذا؟ ولمصلحة من؟ وماذا جنينا؟
هذه أكبر جريمة في التاريخ ارتكبت على يد إسرائيل، ونعرف أنها إفرازات عادية ومتوقعة ناجمة عن حالة الحرب والضغوط الشديدة التي يعيشها أهلنا في القطاع، ونتيجة الظروف القاسية التي يعانون منها.. السؤال: ألم يكن يعرف من استدعى الحرب وصفّق لها أنَّ أي مجتمع يتعرض لحرب عدوانية بهذا الشكل وبهذه القسوة لا بد أن يصل إلى هذه النتيجة؟ فماذا أعد وكيف استعد لتفادي الوصول إلى هذه الحالة، أو لمعالجتها؟ الجواب: لا شيء.  
إذا كان حصاد سنتين من العدوان إعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة.. لنسأل أنفسنا: من الذي تسبب بتغييب القضية أساساً؟ ألم يكن الانقسام؟ وسوء الأداء؟ ألم يكن ممكناً إعادة القضية إلى الواجهة بوسائل أخرى؟ ألم يكن ممكناً مجابهة العدو، ومقاومته شعبياً وعسكرياً والاشتباك معه يومياً ولكن بوسائل أقل كلفة، وأكثر حكمة؟
المشكلة أن القضية أعيدت بصورة سلبية، تلخصها صور طوابير الذل، وتحويل الفلسطينيين إلى متسولين للمساعدات، فعادت القضية إلى مسألة إغاثة ومساعدات، وتم تفريغها من محتواها الوطني والسياسي وتحويلها إلى قضية إنسانية، أي عادت إلى مربعها الأول، مربع النكبة، وفوق هذا عاد زمن الوصاية العربية والأجنبية والمندوب السامي.
ثمة وهم آخر يزخر به الخطاب العربي؛ القول إن العدوان «كشف وجه إسرائيل وأسقطها أخلاقياً».
التاريخ لم يشهد قوة احتلالية انهارت لمجرد انكشاف قبحها، أو اهتزاز صورتها، بل تسقط حين تفقد توازنها المادي والسياسي ودعمها الدولي، والوصول إلى هذه النقطة ما زال يحتاج جهداً ونضالاً مريراً.
كما أن العدوان المتواصل على غزة بات غطاءً تمارس من تحته إسرائيل انتهاكاتها ومشروعها الاستيطاني في الضفة الغربية دون ضجيج،.
والأخطر من ذلك أن سقوط الضحايا يومياً وبأعداد مرعبة، وهذا الحجم المخيف من التدمير صار حدثاً يومياً، ويتكرر على وسائل الإعلام، حتى صار عادياً، ولا يثير انتباه أحد، بمعنى أن العالم اعتاد على ممارسات إسرائيل الإجرامية، وقد استغلت إسرائيل ذلك بتنفيذ كل ما عجزت عن تنفيذه سابقاً، وما كانت تنفذه بحذر وبطء وضمن حسابات.. صارت تنفذه بسرعة وكثافة ودون أي حسابات.
في النكبة الأولى خرج اللاجئون مرغمين، لكنهم وجدوا خياماً ومدارس ورعاية صحية، وسرعان ما استفاقوا وفجروا ثورة مسلحة.. في هذه النكبة الجديدة يُطرد النازحون من بيوتهم ولا يجدون شيئاً.. لا خيمة، ولا مدرسة، ولا حتى أفقاً.. كم سنة سنحتاج حتى نستعيد الأمل؟

شاركها.