اخبار

حصاد «الإخوان» بعد مائة عام…

شخصيات وجهات عديدة انشقت أو خرجت عن جماعة الإخوان المسلمين، ولكن من منطلقات مختلفة؛ فمثلاً خرج تنظيم القاعدة عن الإخوان (عبد الله عزام)، ليتحول فيما بعد إلى جبهة النصرة وداعش، والعديد من التنظيمات المسلحة ليُظهروا النسخة الأكثر تطرفاً وتشدداً عن الجماعة الأُم.. وفي كتابه «الحصاد الـمُر» هاجم الإخواني السابق أيمن الظواهري جماعته، معتبراً أن نهجهم في التقرب من الحكومات وتقبلهم الديمقراطية والانتخابات تجعلهم في صفوف الكفار.. فيما خرجت شخصيات بالاتجاه المضاد، ليمثّلوا النسخة الليبرالية والأكثر اعتدالاً عن الجماعة، أو لأنهم اختلفوا معها في مسائل فقهية وسياسية وتنظيمية، أو أنهم رأوا فسادها واستنكروا ممارساتها وأبوا على أنفسهم الاستمرار في ذلك النهج.. (ليث شبيلات، ثروت الخرباوي وغيرهم).

في أواسط الثمانينيات خرج عن الجماعة الشهيد فتحي الشقاقي ليؤسس حركة الجهاد الإسلامي، بعد أن فشل في إقناع الجماعة بنهج الكفاح المسلح، وضرورة إبراز الوجه الفلسطيني للنضال.
لكن أول من خرج عن جماعة الإخوان ومنذ مطلع خمسينيات القرن الماضي كلٌ من: خليل الوزير، وكمال عدوان، وفتحي البلعاوي، وسليم الزعنون وأبو يوسف النجار.. وهم من مؤسسي وقيادات حركة فتح.. فقد كان هؤلاء وعشرات غيرهم من تنظيم الإخوان في غزة، لكنهم اختلفوا مع الجماعة في مسائل مهمة ومفصلية، أبرزها رفضهم الأيديولوجية والحزبية، وإيمانهم بأهمية الكيانية الفلسطينية، وضرورة بلورة شخصية سياسية مستقلة للشعب الفلسطيني، وأولوية العمل الوطني على الدعوي، ودعوتهم لتبني نهج الكفاح المسلح، إضافة إلى عدم انخراطهم في صراع الإخوان مع عبد الناصر.  
فيما رفضت الجماعة فكرة الكيانية الوطنية (وخاصة الكيانية الفلسطينية) وبقيت متمسكة بفكرة وحدة الأمة الإسلامية، وبمشروعها العابر للحدود.. والدليل أن الجماعة أسست فروعاً لها في مختلف الأقطار العربية، وقد حمل كل فرع اسم بلده، مثلا جماعة الإخوان فرع سورية، أو فرع الكويت.. باستثناء فلسطين، فقد أُلحق تنظيم غزة بتنظيم مصر، وأُلحق فرع الضفة الغربية بتنظيم الأردن، ولم يتأسس أي فرع يحمل اسم فلسطين.
لكن الجماعة ومنذ نهاية الثمانينيات (وعموم حركات الإسلام السياسي) بدأت بإجراء تغيرات مهمة وجوهرية تتعلق بآليات عملها ومرونة تفكيرها وموقفها من قضية الأمة/ والكيانية الوطنية، فتبلورت ظاهرة توطين الأحزاب الإسلامية؛ أي تحولها إلى أحزاب محلية، مبتعدةً بذلك ولو قليلاً عن خطابها التقليدي، دون أن تتخلى عن شعاراتها الأممية والعقائدية.
فمع اتساع الفجوة بين شعاراتها والواقع، والتطورات المتسارعة على الأرض أيقنت أنها لن تكون إزاء جدل فقهي نظري، يخضع لمبدأ الحجية ويعتمد على فصاحة اللغة، بل إزاء الواقعي والحيوي والمتحرك، والذي لا يرحم، وبالتالي يتوجب عليها الاهتمام بالمسائل المحلية، فمهما كانت صياغاتها النظرية بليغة ومحكمة، وسواء كانت تلك الأحزاب في المعارضة أم في الحكم، فإنها ستُصدم مع الحقائق المادية على أرض الواقع وستجد نفسها مضطرة للتعامل معها بمنطلقات وأدوات مادية واقعية. على المستوى الخارجي أدركت أن المواجهة مع الغرب لن تكون أيديولوجية، أو بلاغية، بل ستكون سياسية، اقتصادية ودبلوماسية، فاختار بعضهم المصالحة مع الغرب بدلاً من التصادم معه.
في هذا السياق تحولت جماعة الإخوان في الأردن إلى «جبهة العمل الإسلامي»، وفي مصر، إلى حزب العدالة والحرية، وفي المغرب إلى حزب العدالة والتنمية، وفي ليبيا إلى حزب التنمية والإصلاح. كما لو أن غياب كلمة «إسلامي» من التسمية واستبدالها بمصطلحات عصرية مثل التنمية والعدالة، ليست صدفة سعيدة، بل هي من ضرورات العصر، وتعبير عن رغبة في تغيير الواجهة، ودليل على تراجع الأيديولوجي النظري لصالح المحلي والعملي. حتى أن جماعة الإخوان في الأردن وفي أثناء الحملة الانتخابية للبرلمان ( 2016)، لم تطرح شعارها التقليدي «الإسلام هو الحل»، واستبدلته بشعارات أكثر عملية.
مضى من عمر الجماعة 97 عاماً.. وهذا يستدعي السؤال: بماذا أفادت الإسلام؟ وماذا قدمت للعالم الإسلامي؟ استقطبت ملايين الأتباع، وامتلكت مليارات الدولارات، وبنت قاعدة اقتصادية عملاقة، وامتلكت شبكة إعلامية هي الأضخم من نوعها، وتغلغلت في النقابات والبرلمانات العربية، وحولت آلاف المساجد ودور حفظ القرآن إلى مقرات حزبية، وحكمت في أكثر من قطر وأكثر من بقعة جغرافية، وانبثقت عنها عشرات التنظيمات (معظمها متطرفة ووسمت بالإرهاب).. لكنها أخفقت في تحقيق هدفها المركزي الذي انطلقت من أجله: بناء المجتمع المسلم، واستعادة الخلافة.. بيد أنها نجحت في تمرير أفكارها وغرزها في عموم الجماهير العربية والإسلامية.. وهي في العموم أفكار دوغمائية وطوباوية ومنفصلة عن الواقع؛ مجرد شعارات براقة وتهويمات ضبابية تغيّب العقل، وتدغدغ العواطف، وأناشيد تغذي الوهم، وتمجّد ثقافة الموت، وتزدري الحياة، ولا تقيم وزنا لحياة الناس، فانتجت جيلاً ضيق الأفق، متعصباً، ضحل التفكير.. بلا إبداع.. حتى أنها لم تقدم فناناً أو شاعراً أو أديباً أو فيلسوفاً أو مفكراً يعتد به.  
في مصر بَنت جماهيريتها على قاعدة رفض كامب ديفيد ورفض الصلح مع إسرائيل واشتراطات البنك الدولي، ولما تولت الحكم أعادت العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، وأكدت تمسكها بكامب ديفيد، واقترضت من البنك الدولي!
في السودان اعترف عمر البشير، في تصريحات موثقة، بأن كل مفاصل الدولة بعد انقلاب 1989 أصبحت تحت سيطرة الإخوان، بعد أن وضع الضباط الإخوان بقيادة «حسن الترابي» اللمسات الأخيرة للانقلاب.. وبعد ثلاثين سنة من الحكم فاحت روائح الفساد والطغيان، وبانت علامات الفشل والانهيار، وتقسيم البلاد تبرأ خطاب الإخوان الرسمي من نظام البشير.
فشل نظام البشير لا يكمن فقط في الفساد، والقمع والتنكيل ومصادرة الحريات والسجون السرية، ولا في القضاء على أول تجربة ديمقراطية (حكومة الصادق المهدي)، ولا في الانهيار الاقتصادي، وخسارة نصف البلاد، ومقتل آلاف السودانيين في حروب عبثية (الجنوب ودارفور).. الفساد الأكبر هو الإخفاق في تحويل السودان إلى أغنى بلد عربي وإفريقي.
بعد أن أسقطت أميركا نظام صدام، أقامت نظاما مواليا على أساس المحاصصة الطائفية، وعينت طارق الهاشمي (وهو من الإخوان) نائبا للرئيس.. وجميعنا يعرف ماذا حل بالعراق في تلك المرحلة.  
ولو أضفنا الجماعات التي انبثقت عن الإخوان، أو المقربة منها، أو التي تتشارك معها نفس الأيديولوجيا سنجد النماذج البائسة لحكم طالبان في أفغانستان، وداعش في الموصل، والنُّصرة في الرقة، وحركة الشباب المجاهدين في الصومال، وطالبان باكستان في وادي سوات، والعشرية السوداء في الجزائر.
وفي غزة، فرضت حركة حماس سيطرتها على القطاع، وتفردت بالحكم منذ صيف 2007 وجلبت لها الحروب والكوارث.
في الأردن حاز الإخوان على 31 مقعدا في انتخابات 2024 البرلمانية، وهي أفضل نتيجة منذ 35 عاما، ويعود ذلك إلى استثمارهم في الحرب على غزة واستخدامها كمادة في الدعاية الانتخابية، كما فعلوا في انتخابات 1989 حين ركزوا على الانتفاضة الفلسطينية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *