اخبار

حروب العشرين الثالثة (8).. سما الإخبارية

عقّب شخص في يديعوت أحرونوت الإسرائيلية، يوم السبت الماضي، على مذكرات توقيف نتنياهو، وغالانت، الصادرة عن محكمة الجنايات الدولية على النحو التالي: «على إسرائيل تصنيف محكمة الجنايات الدولية هيئة معادية للسامية، وحظر نشاطها في إسرائيل نفسها، والمناطق الخاضعة لسيطرتها، وفرض عقوبات على موظفيها، وتحذير المدعي العام خان وقضاة المحكمة بضرورة سحب مذكرات التوقيف ضد إسرائيل، وإلا عرضوا أنفسهم لعواقب غير معلومة، ولا تحمد عقابها».

على أي حال، وصفت الجريدة كاتب المقالة، التي اقتطفنا منها العبارة السابقة بالمؤرخ والكاتب البريطاني – الإسرائيلي. وما يعنينا، في هذا الشأن، أن ثمة الكثير من القواسم المشتركة بين كلام المذكور، وما صدر من تصريحات عن مسؤولين إسرائيليين، بمن فيهم نتنياهو وغالانت، وما جاء على لسان الناطقين باسم الحكومة الأميركية، وآخرين طالبوا بفرض عقوبات على المحكمة، ووصموها بالعداء للسامية.
أما القاسم بين القواسم فيتمثل في كونها غير سجالية، لا تقارع حجة بحجة، ولا تتظاهر حتى بذلك. وعدوانية، لا تبدي المطلوب من اللياقة، في التعامل مع مؤسسات دولية تحظى بشرعية التعليق على، والبت في النزاعات الدولية. بل وتستعيض عن لغة الدبلوماسية (حتى من باب النفاق المألوف في السياسة والعلاقات الدولية) بلغة التهديد والوعيد، أي بمنطق القوّة العارية.
يمكن استخدام كل ما تقدّم في بناء مرافعة بليغة بشأن هوس القوّة، الذي يتملّك الإسرائيليين، في الوقت الحاضر، وما ألحق بهم الجرح النرجسي المفتوح من آلام لن تندمل في وقت قريب. ومع ذلك، فإن هذه المرافعة، على أهميتها، أقل شأناً من ضرورة تشخيص القاسم بين القواسم كأمر وثيق الصلة بحروب العشرية الثالثة، التي تتخلّق، الآن في فلسطين، ولبنان، وأوكرانيا، ومناطق مختلفة، وتتجلى فيها علامات انهيار عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، والعودة إلى سياسات الاستعمار، والبوارج الحربية، والتوسّع، في القرن التاسع عشر، والتي تُسهم، بدورها، بوصفها فاعلاً تاريخياً في تكريس وتعميق عملية الانهيار نفسها.
من الحماقة، بالتأكيد، وضع تاريخ لعملية الانهيار مع بداية العشرية الثالثة، فقد بدأت، على الأرجح، مع نهاية الحرب الباردة، ومرت (بقدر ما يتعلّق الأمر بالشرق الأوسط) بمحطات حاسمة كالحرب على الإرهاب، واحتلال العراق، وما اقترن بالمحطات المعنية من محاولات وتصوّرات لهندسة السياسة والأمن الإقليميين. ومع ذلك، يمكن القول، بقدر من الطمـأنينة، إننا نشهد في العشرية الثالثة اهم التمثيلات والمعاني المحتملة لانهيار عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ولنقل إن فكرة القانون الدولي، والمعاهدات، والمنظمات الدولية، ذات الصلة، هي المحور الرئيس لعالم مع بعد الحرب العالمية الثانية، الذي افترض صنّاعه (كان الأميركيون على رأس هؤلاء) أن من شأنه التحكيم في النزاعات الدولية، والحيلولة دون اندلاع حروب كونية لا تُبقي ولا تذر. والمفارقة، في هذا الشأن، أن اندلاع الحرب الباردة، وانقسام العالم إلى معسكرين، أسهما في تعزيز وتكريس هذا المحور.
ولنلاحظ، هنا، أن عوائد الصراع بين المعسكرين لم تكن سلبية في مجالات كثيرة، بالضرورة، بما فيها تحويل الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى سلاح في مقاومة الشمولية، وحصول حركات التحرر القومي على شرعية خوض حروب التحرير، ونزع الاستعمار. وبهذا المعنى، انتهت إمبراطوريات استعمارية تقليدية كالبريطانية، والفرنسية، بالمعنى السياسي والأخلاقي، مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وصارت تصفية تركتها الاستعمارية مسألة وقت فقط.
وبهذا المعنى، أيضاً، لا أعتقد أن ثمة صعوبة خاصة في التدليل على انهيار فكرة القانون الدولي، والمعايير الأخلاقية والسياسية للحرب في الشرق الأوسط. فالشواهد أكثر من الهم على القلب، كما يُقال. ولكن ما لا يحظى بالاهتمام يتمثل في صعود مرافعات جديدة، كانت حتى عقود قليلة مضت، على الهامش المرفوض لسجالات التيار الرئيس في علوم إنسانية مختلفة كالسياسة والتاريخ والاجتماع والاقتصاد والحرب، وصارت الآن في متن السجال نفسه، حتى في الديمقراطيات الليبرالية الغربية.
 والمهم أن مرافعات الشعبويات والفاشيات والعنصريات على اختلاف أنواعها، والنزعة العسكرية، والأوهام الإمبراطورية القديمة، لم تعد محصورة في ساسة ومثقفين معزولين وهامشيين، بل صارت فلسفية ومركّبة على يد مثقفين وأكاديميين مؤهلين في معسكر اليمين.
لذا، ستجد الآن مرافعات بشأن أهمية، ومركزية، الحرب في تطوّر الإنسان، ومرافعات تهجو حماقات الديمقراطية، ونواقصها، ومرافعات تشكك في جدوى تحكيم قيم حقوق الإنسان، والقوانين والمعاهدات في العلاقات بين الدول، والاستعاضة عنها بحسابات المصالح، ومرافعات تعزز التفاوت الطبقي، والغنى والفقر، كأشياء طبيعية في تاريخ الإنسان، وتحذّر من التأثير السلبي لليسار على سلام واستقرار الدول والمجتمعات.
للمرافعات سالفة الذكر مراكز أبحاث، ومنشورات، ومؤتمرات، وموازنات، وشبكات عابرة للحدود، وكوادر لا تشكو ندرة المؤهلات والتمويل، ولها أذرعها الدعائية، ومنصاتها الإعلامية، ووسائلها المجرّبة في التعبئة والتحريض والتنظيم. وهي لينينية، فعلاً، ولكن بوصفها طليعة لثورة اليمين. والأهم من هذا وذاك، أنها تمثل الموجة الصاعدة، بينما تمارس قوى اليسار، والليبرالية في مناطق مختلفة من العالم أشكالاً مختلفة من القتال التراجعي، للبقاء على قيد الحياة والتداول.
ثمة ثلاث قوى، في معسكر اليمين، تبدو مركزية وطليعية تماماً هي الإسرائيلية، والإبراهيمية، والأميركية الترامبية. وقد أسهمت، وما تزال، في زعزعة عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، فهل، مع كل الأحلام الفاوستية في الكون، تحتمل تكلفة انهياره، وهل في وسعها توليد ما يمثل بديلاً أخلاقياً وسياسياً أفضل؟
في مذكرات التوقيف، وفي الرد عليها بلغة التهديد والوعيد، ما يوفر الجواب. فاصل ونواصل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *