حروب العشرية الثالثة (20).. – سما الإخبارية

تكلّم تاجر إبراهيمي للعقارات عن تطوير منطقة وسط البلد في القاهرة بما يجعلها شبيهة بالداون تاون في دبي. هو الذي استخدم تعبير داون تاون، لفظه بالإنكليزية، ومعناه وسط البلد. تداولت منصّات إعلامية مختلفة هذا الكلام، وانتقده البعض بعبارات من نوع أن المقارنة بين مدينة تاريخية عريقة كالقاهرة، ومدينة أنشأتها طفرة نفطية، قبل عقود لا تزيد على أصابع اليد الواحدة، تبدو مبتذلة تماماً، ناهيك عن حقيقة أن لا وجود لشيء اسمه داون تاون في دبي، أصلاً، حيث ينتفي الفرق بين المول التجاري، على الطريقة الأميركية، والمدينة كظاهرة فرضتها السوق المركزية وشروط التراكم الحضري.
على أي حال، لعل في مجرّد المقارنة ما يفتح صندوق باندورا العجيب فعلاً، ويُطلق من الأفاعي ما لا طاقة لأحد على إنكاره. يضع المخيال العقاري، هنا، سيناريو خاتمة حزينة ومُفزعة لحلم النهضة المصرية، الذي استلهم عاصمة الدنيا باريس القرن التاسع عشر، وأفاق منه المصريون على كابوس فنادق، ومطاعم، ومنشآت سياحية تستلهم صدفة جيولوجية من الحديد والأسمنت. الفنادق والمطاعم والمنشآت السياحية، التي لن يتمكن تسعة أعشارهم من تخطي عتبتها إلا إذا كانوا من العاملين في الصيانة والترفيه والخدمات.
ومع ذلك في الصندوق ما هو أكثر من النهاية المُفزعة لحلم مُجهض. فثمة ما يتجاوز الحالة المصرية وينسحب، هنا، على بقية الحواضر العربية، بوصفه خارطة الطريق إلى، وسيناريو، اليوم التالي في العالم العربي، والشرق الأوسط، في زمن ما بعد الحروب والصراعات والأيديولوجيا، ويوم عناق أولاد العم، ونهاية التاريخ، بالطريقة التي توهّمها الأميركي فرانسيس فوكوياما بعد نهاية الحرب الباردة.
لا مفر، هنا، من بعض التوضيح: تجليات المخيال العقاري في العالم العربي والشرق الأوسط كثيرة، وغير مترابطة، بطبيعة الحال، وأفترضُ أنها لن تكون مفهومة بالقدر الكافي، إلا بوصفها حلقات في سلسلة أعرض. وعلاوة عليه، لن يكون ما ندعوه بالمخيال العقاري مفهوماً بعيداً عن رافعتين هما السياسة والأيديولوجيا. فلا وجود لشيء اسمه «بزنس» من أجل «البزنس»، ولا وجود «لبزنس»، سواء تجلى في عقار، أو تمويل مسلسل في رمضان، بعيداً عن الرافعتين السياسية والأيديولوجية.
ومع هذا في البال، لا يبدو أن ثمة صلة، للوهلة الأولى، بين كلام تاجر العقارات الإبراهيمي عن القاهرة الخديوية كعقار، وكلام تاجر العقارات الأميركي عن غزة كعقار، إلا أن النظر بتركيز أكبر سيعيدنا إلى صندوق باندورا العجيب. فالمشترك في الحالتين مخيال عقاري ينفصل فيه المكان عن الذاكرة والتاريخ والسكّان ليصير عقاراً، لا تتجلى قيمته إلا بوصفه موضوعاً للاستثمار، ولا يُستثمر فيه إلا لغرض الفرجة المكرّسة لغرباء أغنياء. لذا، ما من علاقة محتملة بالمكان إلا بوصفها سياحية، مؤقتة وعابرة. فمن من بني البشر يمكن أن يضحي بحياته من أجل فندق، أو يكتب شعراً في بركة سباحة.
وما يستحق عناية خاصة، طالما وصلنا بالتحليل إلى هذه النقطة بالذات، أن المشترك في الحالتين السابقتين ليس ظرفياً، فرضته صدفة المكان أو الزمان، ولا تحكمه نزعات سياحية، أو ربحية مجرّدة، بصفة حصرية، بل ثمة ما هو أبعد وأعقد من هذا بكثير.
فالمخيال العقاري، الذي يعيد إنتاج العلاقة بالمكان، بل وحتى تعريف المكان نفسه، بطريقة راديكالية تماماً، يتمثل في شبكة تصوّرات واستيهامات لقوى إبراهيمية وحواضرية وإسرائيلية وأميركية، هائلة الحجم فعلاً (تشتغل بمليارات الدولارات في أربعة أركان الأرض) فرضت عليها شروط الالتحاق بسوق صارت معولمة، والاستفادة منها، ضرورة التعاون، وجمع بينها مشروع الثورة المضادة لدحر الموجة الأولى للربيع العربي، على مدار ما صار الآن عقداً ونصف العقد من الحروب الساخنة والبادرة.
بمعنى أكثر مباشرة: نتكلّم، هنا، عن شركات وتكتلات حقيقية قوية وفاعلة، وذات نفوذ هائل، تستثمر في العقارات، وتكنولوجيا الاتصالات، والسلاح، والمصارف، تستفيد من قوّة الحكومات في بلدانها (بعضها شريك للحكام، والبعض الآخر مجرّد واجهة شكلية لهم) ولكنها غير محكومة بالتقاليد التي تنظم العلاقة بين الدول، لا تتقّيد بما تنطوي عليه من محاذير. لذا، قد تكون العلاقات الدبلوماسية المباشرة مقطوعة مع دولة بعينها، كما هو الشأن في حالة إسرائيل، مثلاً، ولكن هذا لا يحول دون تعاون الشركات والتكتلات العابرة للحدود في مشروعات مشتركة.
وإذا كان ثمة من ضرورة للتمثيل: أعتقد، وبقدر ما أرى، أن حكاية الشقيقات السبع، أي شركات النفط الأميركية والبريطانية، هي أقرب ما يكون إلى واقع الشركات والتكتلات والشراكات العابرة للحدود، صاحبة النفوذ الهائل في العالم العربي الآن. حكمت الشقيقات السبع، وتحكمت بجانب كبير من خيارات السياسة الأميركية والبريطانية في الشرق الأوسط، بعد الحرب العالمية الثانية، وفي عقد الخمسينيات على نحو خاص.
حدث هذا كله من وراء ستار، بطبيعة الحال. وقد صار في وسع المؤرخين منذ عقود قليلة تحليل الانقلابات، والصراعات الداخلية، والحروب، التي عاشتها بلدان عربية مختلفة، والتطوّرات التي عاشتها منطقة الخليج، والجزيرة العربية، وإيران، على خلفية تدخلات الشركات المعنية، ومصالحها، وعلاقاتها بسفارات وحكومات بلدانها، وتصوّراتها لما يجب أو لا يجب في هذا الجزء من العالم.
أسقطت الشقيقات السبع حكومة مصدّق في إيران، وقد كان رائداً لتأميم النفط في العالم. واشتبكت مع عبد الناصر في حروب سرية وانقلابات في عقد الخمسينيات، وحتى أواسط الستينيات. والصحيح أن جانباً كبيراً من الخبرات والذاكرة السياسية، التي راكمتها الناصرية، وكذلك الحركات الراديكالية العربية، نشأ في جانب كبير منه، في زمن الصراع ضد الشقيقات السبع. ومن سوء الحظ أن هذا ما لا يريد أحد أن يتذكّره الآن.