ثلاثُ قضايا حُسمت في صراع الإقليم..

الصراع الأوّل سابق على «طوفان الأقصى»، أمّا الثاني فقد حُسم أثناء تداعياته، وفي سياقه، والثّالث سيُحسم في ضوء نتائجه.
الأوّل سبق «الطوفان» بعقدٍ كامل على الأقلّ، وقد عبّر عن نفسه بصورةٍ واضحة، وبرأيي لم تعد تحتمل أيّ جدل ـ من خلال الاعتقاد، وربّما القناعة الإسرائيلية بأنّ العرب من خلال بدايات الاستعداد لـ»التطبيع» مع الدولة العبرية، ومن خلال موجة «الإبراهيمية» قد تخلُّوا بالكامل عن «إستراتيجيتهم» التي «كانت» تربط ما بين «حلّ» القضية الفلسطينية، وما بين هذا «التطبيع».
تُرِك للنظام العربي «حرّية» كاملة بأعلى درجات الشجب والاستنكار حين أعلن «رسمياً» من قبل الولايات المتحدة الأميركية أن القدس عاصمة أبدية لدولة الاحتلال، وأُضيف إليها ضمّ هضبة الجولان السوري، ومُنع العرب، أو معظمهم تحت طائلة التهديد المباشر بالذهاب إلى ما هو أبعد من تلك الخطابات الرنّانة حول «التمسُّك» بقيام الدولة الفلسطينية، بنفس الدرجة من التمسُّك بالعمل الدبلوماسي والتشاور مع الشركاء الدوليين حول كيفية هذا التمسك، وآليات التشبُّث به، والتي لم تتجاوز أبداً صيغة الخطابات «الفخمة» في أروقة الجامعة العربية، والكلام همساً مع الإدارة الأميركية، والكلام تلميحاً، وليس تصريحاً مع الاتحاد الأوروبي لا أكثر ولا أقلّ.
تعزّزت القناعة الإسرائيلية بثلاثة عوامل جديدة عزّز كثيراً من توجّهها نحو الانتقال من إدارة الصراع نحو حسمه وهي:
1 الفشل المتتالي لإنهاء الانقسام الفلسطيني، وهشاشة الأوضاع الداخلية في كل الحالة الفلسطينية، بما في ذلك استكانة حركة «حماس» في قطاع غزّة، وقبولها، والإعلان عن استعداداتها المتزايدة لعقد هدنة طويلة مع الاحتلال.
هنا أساءت دولة الاحتلال قراءة استعدادات «حماس» للهدنة، فقد فهمت من هذا الاستعداد أنّ الأخيرة تتمسّك بحكم القطاع بصورةٍ لا تقبل الجدل، وأنّ أولويتها المطلقة هي هذه المسألة لا غيرها.
لم تفهم دولة الاحتلال بكلّ مؤسساتها أن «حماس» فشلت فشلاً ذريعاً في إدارة القطاع، وأن استعدادها للهدنة ليس سوى الطريقة التي «ربّما» تنقذ حكمها هناك، وهو ما جعل منه المخرج الوحيد للحركة دون أن تدفع الثمن غالياً هو الخروج من ذلك الحكم بعد معارك ضارية تعيد ترتيب أوراق القطاع من موقع بقائها متحكّمة به دون أن تكون مسؤولة بصورة مباشرة عن حكمه.
وبسبب سوء القراءة الإسرائيلية بدأت «حماس» بالإعداد لتلك المعارك، ترافق ذلك كلّه بسيطرة يحيى السنوار على قرار الحركة، وحُصر القرار بالحرب بهذا الجناح، وأصبحت كل الأجنحة الأخرى في الحركة تبلّغ فقط بقرارات الأخير ومحمد الضيف، وفي حدود جزئية، ورمزية أحياناً، بل وحتى شكلية.
الفشل الثاني، هو الاعتقاد الإسرائيلي في صفوف «اليمين الجديد» أنّ حسم الصراع لن يكون ممكناً إلّا إذا تمّ حسم الصراع داخلياً بتغيير هوية الكيان والمجتمع.
المطبّ الذي دخل فيه «اليمين» ــ إذا جاز التعبير ــ أنّ الفشل في قراءة واقع «حماس» هو ما قاد هؤلاء إلى الوقوع فيه اعتقاداً من هذا «اليمين» أنّ «المعركة» المصيرية ستُحسم في الضفة الغربية، وعلى اعتبار أنّ معركة غزّة مؤجّلة، وربما مجمّدة بالكامل، وأن حسمها سيكون أسهل وأسرع بعد «معركة» الضفة، وبالتأكيد ليس قبلها.
هذا، وبالرغم أنّ حسم الصراع عموماً داخلياً كان ضرورياً على كلّ حال، إلّا أنّ الأمر قد تحوّل موضوعياً في فترات لاحقة من إستراتيجية حسم الصراع إلى إستراتيجية بقاء حكم «اليمين»، وبقاء نتنياهو.
هنا ارتبكت الإستراتيجية لحسم الصراع، ودخلت عليها عناصر ليست من صنف ضروراتها الملّحة، وليست جوهرية في تقدّم هذه الإستراتيجية.
أمّا الفشل الثالث، فكان في إساءة فهم الواقع الدولي، فقد «فهمت» القيادات الإسرائيلية كلّها آنذاك أن انتقال محور الصراع الدولي إلى آسيا منذ إعلان باراك أوباما الشهير عن ذلك، وبالتالي فإن الشرق الأوسط سيتحوّل إلى ساحة خلفية للصراع الدولي، وسيُتاح لدولة الاحتلال حرّية حسم الصراع فيه حسب المعطيات التي تراها مناسبة.
القضية الثانية التي حُسمت بعد كلّ الإرباكات التي شهدتها إستراتيجية الانتقال من إدارة الصراع إلى حسمه كانت «الطوفان» نفسه.
حسمت دولة الاحتلال بعد كل الذي لحق بها جرّاء الخداع الإستراتيجي الأكبر الذي تعرّضت له منذ تأسيسها، وبعد أن بدت منظوماتها العسكرية والأمنية في حالة من الشلل والانهيار.. حسمت مسألة لم تكن محسومة بالكامل قبل «الطوفان»، وهي أنّ التعايش مع المشروع الصهيوني أصبح عملية مستحيلة إلّا في حالة إن تمكّنت دولة الاحتلال من فرض كل شروطها على الجانب الفلسطيني، وشروطها لا تتعلّق بجانب واحد من جوانب الحالة الفلسطينية، وإنّما بكل ما هو، وكل من هو فلسطيني، وهي بالتالي حوّلت هذه الحرب إلى حرب وجود ليس بالنسبة للحكومة والائتلاف الفاشي الحاكم، وإنما بالنسبة للكيان.
ومهما تشدّقت دولة الاحتلال حول «حماس»، و»القضاء» عليها، وحول سلاح الأخيرة، فهذه مجرّد أكاذيب مكشوفة، والحرب الكارثية التي تمّت العودة إليها يريدها «اليمين الفاشي» «الحرب الحاسمة»، التي تفرض الشروط الإسرائيلية، مهما كان الثمن، لأنّها باتت «الحلّ» الوحيد لبقاء «اليمين» في الحكم، ولبقاء نتنياهو على رأس هذا الحكم، والحلّ الوحيد لحسم الصراع داخلياً.
حسم الصراع بعد كلّ ما تمّ تدميره، وبعد قتل وجرح عشرات الآلاف، وبعد تدمير الجزء الأكبر من القطاع، وبعد إهانة أكثر من مليوني فلسطيني بالتجويع والتشريد والحرمان من الماء والدواء، يحوّل هذه الحرب المجنونة، في إطار الحرب التي تدور، وقبل أن تتكرّس نتائجها غير القابلة للارتداد إلى حرب «وجودية»، مفتعلة من جانب «اليمين» العنصري، ولكنها تتحوّل إلى وجودية فعلياً على الشعب الفلسطيني إذا حُسمت نتائجها وتكرّست لمصلحة الكيان، ليس كدولة، وإنّما كسياسة يعمل عليها هذا الكيان.
باختصار حسمت دولة الاحتلال نحو استحالة التعايش بين بقاء مشروع التحرّر الوطني الفلسطيني، وبين مشروع التصفية الكاملة ليس فقط لحدود الحقوق الفلسطينية، وإنّما لحدود الوجود الفلسطيني وشروطه.
لم يكن «الطوفان»، من حيث السياق الذي جاء فيه، وهو سياق له معنى واحد وحيد، وهو أنه ليس سوى «محاولة» لاعتراض إستراتيجية حسم الصراع.. بصرف النظر عن الاختلاف حوله، وهو اختلاف مشروع على كلّ حال، فإن تحويل النظرة حول حسم الصراع إلى مجرّد شتم الأطراف الفلسطينية لبعضها البعض، وتحوّل الشتم إلى الإستراتيجية الوحيدة المطروحة فلسطينياً هو أكبر عملية تسطيح يُصاب بها الفكر السياسي الفلسطيني على مدى عقود كاملة، حتى أن «سفسفة» العمل السياسي إلى هذه الدرجة ينذر بأن القيادات الفلسطينية أصبحت عاجزة عن الاعتراف بالفشل إلّا باعتماد إستراتيجية جديدة، قوامها وعمادها، الشجب والشتم، واللوم والعتاب والعتب.
أي أنه في الوقت الذي يخطّط المشروع الصهيوني للدفاع عن دوره ومكانته في صراع الإقليم بتحويل هذا الصراع إلى صراع وجودي، وإلى حرب للبقاء، فإنّ الجانب الفلسطيني يعتمد استراتيجيات «الردح السياسي»، و»تقاذف» كرة المسؤوليات، في نفس الوقت الذي يعلن فيه نتنياهو أن حربه الإجرامية لن تقف، ولا يمكن لها أن تقف إلّا بحسم الصراع، وبإخضاع الفلسطيني، وتجريده ليس فقط من سلاحه، ومن حقوقه، ومن كرامته، وإنّما من وجوده، ليس بسبب «الطوفان» ــ كما يعتقد بعض الهُواة ــ وإنّما بسبب ما فعله الأخير من قلب الطاولة إلى ترتيبات أميركا للإقليم.
القضية الثالثة، أو الصراع الثالث ما زال قيد التبلور، وهو متعلّق بعدّة شهور ساخنة، وبعدة سنوات قادمة.
عودة الصراع إلى المربّع الأوّل هو أكبر تهديد تواجهه دولة الاحتلال، وعودته يتحوّل على الوجود، هو تهديد أكبر من التهديد الأوّل، وحسم الصراع الداخلي بات مستحيلاً إلّا إذا تحوّلت دولة الاحتلال إلى دولة عصابات وميليشيات متناحرة، ولم يعد بالإمكان الحفاظ على «هيئة» الكيان الحالي، وعلى مؤسساته في نفس الوقت الذي تجري فيه محاولات حسم الصراع الداخلي.
أقصد لم تعد مسألة حسم الصراع هي قضية ميدانية وعسكرية، وقدرات استخبارية وتكنولوجية.
تحوّل حسم الصراع إلى «النصر الكامل» هو الخدعة الأكثر تضليلاً في تاريخ المشروع الصهيوني، وتحوّل الوهم حولها بالمعنى الآني والمباشر، وليس البعيد الحتمي هو النفق الذي دخلت فيه دولة الكيان، وليس في آخره، أي ضوء، والنصر الوحيد الذي حققته، وهو جزئي وهامشي، أن بعضنا ما زال يرى أنّ كلّ القضية ستحلّ بالشتم، وأنّ ما سيستعصي عليه لا يُحلّ إلّا بالمزيد من الشتم.