تلخيص مكثّف لحالتنا الصعبة..عبد الغني سلامة

تلخيص مكثّف لحالتنا الصعبة..عبد الغني سلامة
2025 May,05
إزاء ما يحدث في غزة منذ سنة ونصف السنة من عدوان وقتل وتدمير وتشريد.. إلخ، نعيش جميعنا حالة من التخبط والعجز والهوان، فإسرائيل ماضية في مخططها وتنفذ برنامجها التوسعي الاستيطاني التهويدي الهادف إلى تصفية القضية الفلسطينية وإنهاء الصراع، والذي يقتضي منها ممارسة الإبادة الجماعية وتهجير الفلسطينيين.. وهذا المخطط يجري تنفيذه ببطء منذ سبعة عقود، لكنه أخذ وتيرة متسارعة وحاسمة في الآونة الأخيرة من خلال حربها على غزة.
في المقابل، وعلى مدى العقود الماضية، ناضل الفلسطينيون بكل تصميم وشجاعة ضد المشروع الصهيوني، وخاضوا مقاومة باسلة بما توفر لديهم من إمكانيات متواضعة مقارنة بما لدى العدو، وسط عجز عربي وتواطؤ دولي، الأمر الذي أحبط وأعاق مسعاهم لنيل الحرية والاستقلال، بل جعل مسيرتهم التحررية تتراجع يوماً بعد يوم، وفي المحصلة لم ينجح الطرفان (الفلسطيني والإسرائيلي) في حسم الصراع، فلم يستطيع أي طرف حتى الآن الادعاء بإحراز انتصاره التاريخي.. وظل الصراع ممتداً ومفتوحاً.
كل هذا معروف وبديهي لكل فلسطيني.
التفوق الإسرائيلي واضح وله أسبابه الموضوعية والمعروفة.. والإخفاق الفلسطيني لا يقل وضوحاً، وأيضاً لديه أسبابه المعروفة، وهي في معظمها أسباب خارجة عن إرادته وتتعلق بمعادلات النظام الدولي والمعادلات السياسية في الإقليم.. لكن الأسباب الذاتية لا تقل أهمية، وأهمها غياب إستراتيجية وطنية جامعة، وضعف أو انعدام التخطيط، وترهل فصائل العمل الوطني والإسلامي، وحالة التفرق والتشتت التي وصلت حد الانقسام.
ويمكن القول: إن الانقسام كان أحد أهم الأسباب لوصولنا إلى هذه المرحلة من الضعف، إضافة إلى تراكم سلسلة من الأخطاء والسلبيات والحسابات الخاطئة والمراهنات الفاشلة، لم تجر معالجتها في حينه، فتفاقمت.
اليوم، نعيش لحظة استثنائية وفي غاية الخطورة، ففي غزة مجزرة مفتوحة، ومعاناة إنسانية في غاية البؤس والصعوبة، والأولوية الوطنية يجب أن تكون إيقاف العدوان وإنهاء الحرب.. لأن إيقاف الحرب لا يعني فقط وقت المقتلة، ووضع حد لمعاناة الناس، وهذا طبعاً في غاية الأهمية، ولكن وبنفس مستوى الأهمية يعني إيقاف أو فرملة المخطط الصهيوأميركي الهادف لحسم الصراع، وإحداث تغييرات جذرية في المنطقة، على حساب القضية الفلسطينية.
ويبدو أن العقل السياسي الفلسطيني وللأسف لم يصل إلى مستوى إدراك خطورة اللحظة الراهنة، خاصة لدى قوى المقاومة وجمهورها المؤيد لها بلا تحفظ.. وحتى مع إدراكنا المتأخر أخذنا نفقد خياراتنا واحداً تلو الآخر، فمع كل تأخير يصبح ما هو ممكن ومقبول الآن صعباً في وقت لاحق، لأن ما سيُطرح حينها سيكون أقل، حتى لا يبقى أمامنا سوى الفناء أو الاستسلام.
فما يطرحه ويمارسه الفلسطينيون الآن (المؤيدون والمعارضون، السلطة والمقاومة، الشعب والفصائل والنخب) لا يرتقي إلى مستوى الحدث، يُضاف إليهم أنصار القضية الفلسطينية في الخارج وحلفاء المقاومة من عرب ومسلمين.
كل ما يقولونه صحيح ويجب أن يُقال سواء في مديح المقاومة أو انتقادها، لكنه على أرض الواقع غير مهم، ولن يفيد أهلنا في غزة بشيء.. مهما شتمنا إسرائيل، ومهما قدمنا دلائل وقرائن على إجرامها.. لن يمنع هذا كله إسرائيل عن تجبرها ولن يوقف عدوانها، ولن يحمي بيتاً لأهلنا في غزة، ولن يطعم جائعاً.
مشكلتنا ليست في صياغة البيانات، ولا في جزالة الألفاظ، ولا في توضيح الحقائق للعالم.. العالم رأى كل شيء بالتفصيل، وتوقف عند ذلك.. اليوم، لم يعد خبر غزة مهماً، ولا خبر فلسطين كلها.
جميعنا بلا استثناء نشعر بالألم والحزن والقهر على ما يحدث في غزة من مآسٍ وكوارث.. ومشكلتنا ليست في التباين الحاد في تعبير كل طرف عن مشاعره الوطنية والإنسانية.. مشكلتنا أننا لم نكوّن إستراتيجية صحيحة (ولا حتى خاطئة) لتحويل مشاعرنا إلى فعل حقيقي ومنظم على الأرض.. بل تحولت تلك المشاعر إلى بديل مريح عن الفعل.
تجميل الموت، والتغني بالشهادة، والتبشير بالجنة، صار تعويضاً عن محاولات فهم وإدراك ما يحدث بعقلانية وشجاعة، والإقرار بالإخفاق والفشل وتحمّل المسؤولية.
التظاهرات والإضرابات والمقاطعة (رغم أهميتها)، وكل العبارات العاطفية والأدعية والمقولات الدينية (الغيبية) والشعارات الثورجية صارت بديلاً عن تبني موقف شجاع يطرح بديلاً واقعياً أو مبادرة للحل.
وأمام صور مقتل العشرات يومياً، وتدمير مربعات سكنية بأكملها، وتشريد مئات الآلاف.. يتم عرض صورة لقنص جندي، أو فيديو لاستهداف دبابة وكأنها تعويض عن كل تلك الخسائر، وهذا التعويض (الزائف) يحوّل مشاعر الغضب والحزن إلى فرح وحبور بمقتل جندي، أو إعطاب آلية.. فيتم امتصاص النقمة على الجرائم الإسرائيلية، وتفريغ أي حراك شعبي من مضامينه، وتعطيل إمكانية بلورة أي فعل حقيقي ومؤثر.
الحقيقة أننا تعرضنا لضربات قاتلة، وتلقينا خسائر جسيمة، وفقدنا أرواحاً عزيزة وبأعداد مهولة، وعلى وشك خسارة غزة، وأراضي الضفة يجري قضمها بالمصادرة والاستيطان، وقضيتنا صارت على المحك. ومن الغريب أن ندعي بعد كل ذلك أننا انتصرنا، بل حققنا نصراً تاريخياً! وقائع كهذه لو تعرض لها أي شعب في العالم ستكون كافية لأن يقر بالهزيمة.
ونظراً لحساسية كلمة «هزيمة» ووقعها الرهيب والمدمر على النفس، جرى توظيف بلاغة اللغة وسحر البيان لاستخدام مرادفات أخرى.. حتى لو كان ذلك تلاعباً بالكلمات والتفافاً حول الحقيقة، ومكابرة.. ومع ذلك، يجب التفريق بين الإقرار بالهزيمة، وبين القبول بها.. القبول بها والتكيف معها يعني الاستسلام.. وهذا مرفوض قطعاً.
ثمة فرق كبير وجوهري بين الإقرار بالهزيمة والدعوة للاستسلام.. فكثير من الشعوب والحركات الثورية تعرضت لهزيمة، هذا لا يعيبها خاصة في ظل التفوق الهائل للعدو، والاختلال الفادح في موازين القوى.. لكن من المعيب أن نستمر في الكذب على أنفسنا، كوسيلة للتهرب من تحمّل المسؤولية.
وهذه ليست مكابرة بقدر ما هي تزييف للواقع وقبول بكل أشكال التعويض الوهمية التي أشرنا إليها، وإضاعة المزيد من الجهد والوقت قبل أن نضع أقدامنا على سكة الحل، وبالتالي تلقي المزيد من الهزائم.. وهدر كل الدماء التي سالت والتضحيات التي قدمت بالمجان.. ودون تحقيق أي منجز، بل مراكمة الأخطاء والاستمرار في الانحدار.
المطلوب استراحة محارب، ومراجعة نقدية جريئة وأمينة، لعل ما جرى يشكل صدمة كافية تجعلنا نعيد حساباتنا، وأن نتصرف بما يليق بشعبنا وتاريخه النضالي، وتضحياته الغالية.