قد يكتب التاريخ في الغد أن دونالد ترامب، قد حقق بعض إنجازات مهمة على صعيد السلم في العالم، لكنه كان في الوقت نفسه من أقدر  الرؤساء الأميركيين على ارتجال الكلام المسطح بطريقة “الحكواتي”، وأن لا أحد من رؤساء أميركا “انهوس” بالمال والجنس الرخيص كما فعل، وأن لا رئيس استغل منصبه في البيت الأبيض لجني المال أكثر منه، كما قد يكتب التاريخ أيضا أن ترامب كان أقل رؤساء أميركا ثقافة وعلما بالتاريخ والكتب، أما بالنسبة إلى قضية فلسطين فكان كارثة حقيقية،
منذ دخل معترك السياسة، وهو يفاخر بنفسه ومنجزاته. لم يتفوه يوما بكلمة واحدة، يمكن أن تدخل العقل أو  القلب أو تدخل التاريخ.

في خطابه في الكنيست الإسرائيلي قال عن إسرائيل إنها “أرض مقدسة Holly Land”، ولم تأت هذه العبارة على لسانه زلة، بل استقاها مما جاء في “سفر زكريا” من العهد القديم، ليقول للإسرائيليين في عقر دارهم ما معناه، إنه منهم، وإنه معهم، وإنه من المؤمنين بالمسيحية كديانة متكاملة مع اليهودية.
لا أعرف إذا كان ترامب يعرف أن عبارة “الأرض المقدسة” ليست في الأناجيل الأربعة من “العهد الجديد”، وأن القداسة في كتاب هذا العهد، هي للروح القدس وللأنبياء لا للأرض، لكن ترامب تعمد استخدامها كتوصيف توراتي، لمصلحته الخاصة، ومصلحة إسرائيل، ومصلحة الصهاينة في الولايات المتحدة الذين يهمهم تسويق هذا الزواج “المصطنع” بين المسيحية واليهودية. لكن ترامب مع ذلك، ليس وحده من الرؤساء في الغرب من دعا إلى هذا الزواج  “المصطنع” بين الديانتين، كان منهم أيضا، يهودي يميني محافظ هو بنجامين ديزرائيلي، الذي شغل منصب رئيس وزراء بريطانيا بين 1868 إلى 1880 وكان من  أقرب رؤساء وزراء بريطانيا إلى قلب الملكة المهيبة ڤيكتوريا، وهو صاحب القول الشهير عن المسيحية “إنها إن لم تكن استمرارا لليهودية، فإنها لن تكون شيئا” Christianity is a continuation of Judaism or nothing  في كتابه “تاريخ الشرق الأدنى”، يكتب المؤرخ اللبناني الأميركي الراحل فيليب حتي عن المسيحية  في روما قائلا:” كان على هذه المسيحية أن تكون رومانية قبل أن تدعو الرومان ليكونوا مسيحيين”، وهكذا هي المسيحية اليوم عند الملايين في الولايات المتحدة، نسخة أميركية مشوهة وبعيدة عن المسيحية الأصلية الشرقية التي جاءت على لسان المسيح في الأناجيل، خصوصا ما جاء منها في موعظة الجبل. يكفي أن يفتح المرء كتاب “العهد الجديد” ليقرأ فيه قول يسوع “قد قيل لكم كذا وكذا، أما أنا فأقول لكم”، ويدرك حجم الفوارق الروحية بين النسخة الأصلية والنسخة المشوهة، وأن المسيحية تختلف عن اليهودية اختلاف الليل عن النهار، ولا يمكن ان تكون استمرارا لها. لكن من مصلحة الصهاينة والمحافظين الجدد تسويق هذا الزواج “المفبرك” بين الديانتين،  ليوهموا العالم بأن اليهودية هي الديانة الشرقية  التوحيدية الأصلية، وإن ما جاء بعدها من أديان شرقية ما هو إلا رسالات منسوخة لا يعتد بها، وأن النسخة المسيحية الغربية هي المسيحية المتكاملة مع اليهودية!
من سمع كلام ترامب في الكنيست الإسرائيلي يجد أن ليس لدى هذا الرئيس الذي يحكم أقوى وأغنى دولة في العالم، من المهارات غير التفنن بكلام سطحي لا يقتنع به إلا أصحاب العقول البسيطة، ويستغله أصحاب النيات من المقاصد الخاصة،  وأن هذا الرئيس لم يقرأ كتابا مفيدا واحدا في حياته،  ليفهم أن أي أرض مدججة بالسلاح كما هي إسرائيل، لا يمكن من الوجهة الروحية أن تكون مقدسة. وكيف تكون مقدسة إذا كانت مدججة بأسلحة أميركية أرسلتها دولته لتدمير غزة فوق رؤوس سكانها الآمنين من العجائز  والنساء والأطفال؟

ad

يظن ترامب أن الناس أغبياء ويحاول أن يسوق “سلاما” عنوانه “الاتفاق الإبراهيمي”. لا يمكن فهم هذا الاتفاق من عنوانه “الإبراهيمي” إلا أنه خدعة يرمي الصهاينة من ورائها إلى تغليب الثقافة الدينية العبرانية على الحياة المدنية لشعوب المنطقة من العرب، واعتبارهم  شعوبا أو قبائل دينية مختلفة ومتخلفة ثقافيا وروحيا، وأنهم مواطنون من درجة ثانية من الوجهة الدينية، وأن اليهود هم مواطنو الدرجة الأولى، أولاد إبراهيم الأصلاء من زوجته سارة او ساراي، وأن العرب هم أولاد الجارية هاجر .
إنه نوع من “السلام” المقنع بالخداع الديني، ونتيجته اخضاع العرب للتراث العبراني وخرافاته التي تحولت إلى دولة مسننة بالحراب، وسيكون العرب أغبياء إذا انطلت عليهم الحيلة وقبلوا بهذا التوصيف الإبراهيمي وبهذا النوع من “السلام” لأنه سيكون على حساب ثقافتهم وحضارتهم ووجودهم، وحقهم التاريخي في فلسطين، وفي ديارهم العربية. إن تمرير هذه الخدعة يعني وفق المنظور التوراتي “الإبراهيمي” أن الديار التي هي اليوم عربية، هي ديار توراتية يحق لليهود وحدهم تملكها، حسب عهد “رب”  إسرائيل مع أبرام كما ورد في “سفر التكوين” على هذا النحو: “لنسلك (يا أبرام) أعطي هذه الأرض، من نهر مصر  إلى النهر الكبير، نهر الفرات”!
هل يعرف الذين سوف يوقعون هذا “الاتفاق الإبراهيمي” من العرب، خطر هذه التسمية، وما هي المناطق التي ترنو إليها عيون  الغلاة من الصهاينة، لتكون أجزاء من إسرائيل الكبرى”؟!
لعلم من لا يعلم ، إن كل جيل في إسرائيل يتمم حلقة من السلسلة لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى، هذا ما يقولونه اليوم ويدرسونه في بعض المدارس، ويؤلفون حوله الكتب. وإسرائيل الكبرى لعلم من لا يعلم أيضا، ستشمل إسرائيل الحالية، مضموم إليها الضفة الغربية وقطاع غزة، والأردن بكامله، وجزء كبير من لبنان، ومناطق من سوريا الجنوبية والشرقية، والمناطق الغربية في العراق وشمال شبه جزيرة سيناء، ومناطق في شمال غرب السعودية.
تبقى هناك رسالة توجه إلى اللبنانيين، حكاما وموطنين، حول ما قاله طوم براك، الموفد الأميركي إلى لبنان عن أن إسرائيل لن تعترف بعد اليوم بخطوط ما حددته اتفاقيات ” سايسبيكو” ، وأنها حرة بتجاوز تلك الحدود متى وأين، وبأي طريقة تشاء، وهذه هي شريعة “الدولة الإسرائيلية لإبراهيمية” التي أعلن ترامب بالنيابة عنها، حب السلم والتعاون أيها العرب، وأيها اللبنانيون، ويا عرب فلسطين!
كاتب لبناني

شاركها.