ما يحدث اليوم ليس مجرد سياسة حكومية عادية، بل إعادة ترتيب كامل للأولويات “الوطنية” في إسرائيل وفق مصالح زعيم واحد. في ظل ضغوط متزايدة من الولايات المتحدة الأمريكية وتحالفات داخلية معقدة، تتعرض حكومة بنيامين نتنياهو لانتقادات حادة من وسائل الإعلام الإسرائيلية وعدد من المحللين السياسيين، الذين يرون أن حساباته الشخصية تتقدم على المصلحة الوطنية، وأنه مستعد لقبول تنازلات كبرى أمام الإدارة الأميركية مقابل حماية مستقبله السياسي والقضائي.
تعيش إسرائيل لحظة سياسية معقدة تتقاطع فيها الضغوط الأميركية والدولية مع حسابات اليمين الداخلي، ويقف في مركزها نتنياهو، الذي يدير المرحلة بمنطق البقاء السياسي أكثر مما يديرها وفق رؤية استراتيجية للدولة.
الضغوط الأميركية، خصوصاً مع عودة دونالد ترامب إلى المشهد، لم تعد مجرد نصائح دبلوماسية، بل أصبحت تمس جوهر السياسات الإسرائيلية في غزة والعلاقات الإقليمية، وصولاً إلى ترتيبات محتملة لمسار سياسي مع الفلسطينيين. ورغم حساسية هذه الملفات، يتعامل نتنياهو معها بمرونة اضطرارية، مقدماً تنازلات كان يرفضها قبل أشهر، ليس كتحوّل استراتيجي، بل لضمان استمرار الائتلاف وتفادي انعكاسات قضائية وسياسية محتملة.
على الصعيد الداخلي، كشفت الحرب عمق الانقسامات في المجتمع الإسرائيلي: الأزمة القضائية، تجنيد الحريديين، تراجع الوضع الاقتصادي، وتآكل مكانة إسرائيل في العالم. المعارضة تلوم الحكومة على هذا التراجع، لكنها بنفس الوقت تبنّت خطاباً متشدداً ضد إنهاء الاحتلال أو أي تسوية سياسية، ما يجعل الانتقاد ناقص المصداقية.
في الوقت نفسه، يواصل اليمين المتطرف بقيادة بن غفير وسموتريتش تعزيز نفوذه في الشرطة والضفة الغربية، مستفيداً من ميزانيات كبيرة وغياب رقابة فعلية. وهذا التمدد لم يعد مجرد ظاهرة هامشية، بل أصبح جزءًا من بنية الحكم التي يعتمد عليها نتنياهو لضمان استقرار ائتلافه.
وفي خطوة تعكس هذه الديناميكية، ضمّ نتنياهو وزراء اليمين المتطرف إلى لجنة “اليوم التالي”. لم يأتِ هذا القرار لإحراجهم أمام واشنطن، بل لإشراكهم في تبعات القرارات المفروضة خارجياً ومنع أي تهديد بانسحاب قد يهزّ الحكومة. إنها محاولة واضحة لتوزيع المسؤولية السياسية بدل تحملها منفرداً.
ومع اقتراب تنفيذ قرار مجلس الأمن بشأن غزة، الذي يدعو إلى ترتيبات لوقف إطلاق النار ومسار سياسي، تتحرك الحكومة الإسرائيلية بخطوات استباقية على الأرض. تصعّد في بعض المناطق وتوسّع عملياتها، وتسوق ذلك بوصفه “ضرورة أمنية” لمواجهة الضغوط الدولية، بينما الهدف الحقيقي هو خلق واقع ميداني يجعل تنفيذ القرار صعباً أو قابلاً للتعديل وفق الرؤية الإسرائيلية. بهذه الطريقة، تستبق إسرائيل أي صياغة نهائية مفروضة دولياً، وتُظهر لجمهورها أنها تتحكم بالوضع.
مع اقتراب انتخابات تشرين الاول/ أكتوبر 2026، تتضح الصورة أكثر. كل قرار حكومي اليوم محكوم بحسابات البقاء حتى ذلك الموعد أو بتأمين تسوية سياسية–قضائية لنتنياهو. البرامج المالية للأحزاب الدينية، احتواء اليمين المتطرف، وإدارة العلاقة مع واشنطن هي أدوات ضمن هذه المعادلة.
وفي هذا السياق، تؤكد صحيفة هآرتس أن الصراع الراهن لم يعد مواجهة أمنية فحسب، بل تحول إلى معركة متعددة المستويات بين الضغوط الدولية، مصالح نتنياهو الشخصية، والتحالفات الداخلية، حيث تتقدم أولوياته الخاصة على أي تصور للمصلحة الوطنية الحقيقية. وبهذا تصبح إسرائيل على أبواب انتخابات 2026 أكثر انقساماً داخلياً ومتوتراً على الساحة الدولية، فيما تستمر الحكومة في إدارة اللحظة لا إدارة المستقبل.
