وصلنا إلى القاع بلا سلّم نجاة…. ليس لأن العدو لا يُقهر، بل لأننا كنّا أضعف مما يجب. ولأن الخلاف بيننا كان أهمّ من الوطن، ولأن كل طرف آمن بأن السلطة أهم من الشعب، وأن الكرسي أهم من الحرية، وأن الحسابات الشخصية أكبر من القضية. وصلنا إلى هنا لأن 18 عاماً من الانقسام لم تكن مجرد حدث سياسي؛ كانت عملية انتحار جماعية. وصلنا لأننا تركنا الخنجر في الجرح، ثم صرخنا من الألم، وكأن أحداً آخر هو من غرسه. ما حدث لم يكن صدفة. ولا قدراً.  ولا مجرد مؤامرة خارجية، كان نتيجة سلسلة طويلة من القرارات الخاطئة، و الجُبن السياسي، والتواطؤات، والصمت، والمصالح الضيقة التي دفعت شعباً كاملاً إلى الهاوية.

اليوم… كل شيء يتهاوى.  نظام سياسي مشلول، قرار فلسطيني غائب، جغرافيا مفصّلة، حرب إبادة لا تتوقف، ووصاية دولية تعود بثقة إلى المشهد، وكأنها تقول لنا: لقد فشلتم؟ دعُونا نحن نملك الدفة. فكيف وصلنا إلى هنا حقاً؟. دعونا نقول بلا خوف، أو ارتجاف أو تردد نتيجة حسابات شخصية، و لنُجرّد المشهد، وأنفسنا من التزيُن… ونضع الإصبع على الجرح. مع العلم أن الجراح كثيرة وغائرة لا يكفيها إصبع أو اثنان. ربما لا يكفيها جسدٌ كامل

ولا يمكن اختزال اللحظة الراهنة التي نعيشها اليوم بكل ما فيها من حرب إبادة مفتوحة، وصاية، وانتداب ناعم وقرارات دولية مثل اقرار مجلس الأمن 2803 ، في سياق الإبادة وحدها. إنما هي تراكم ثقيلومركب لمأساة عُمرها ثمانية عشر عاماً من الانقسام، وامتدت عبر شبكة معقّدة من الأخطاء والخيارات والحسابات الداخلية والخارجية، وتراكمت معها عوامل متنوعة دفعتنا جميعاً إلى هذا المآل القاسي.

إنها لحظة يتداخل فيها الماضي بالحاضر، إلى درجة يصعب معها الفصل بين ما كان وما يحدث. لذلك، يصبح السؤال الكبير مُلحّا: كيف وصلنا إلى هنا؟ ومن أسهم في دفعنا إلى هذه الهوّةالسحقية، إلى غيابة الجب؟. هنا، أحاول نبش الذاكرة، لا بهدف جلد الذات، بل لفهم الطريق الذي مشيناه حتى وصلنا إلى هذه اللحظة غير القابلة للوصف.

فحماس، صنعت إنقساماً، وأسست سلطة منفصلة، وخلقت واقعاً سياسياً لا علاقة له بمشروع التحّرر، ومع الزمن، صار بالنسبة لهامصلحة وجودية لا ظرفاً طارئاً. على الجانب الآخر، لم يتخذ الرئيس محمود عباس، بوصفه رئيس الشعب الفلسطيني، والوحيد الذي كان يمتلك القدرة السياسية والدستورية، ما يلزم من خطوات جادة وجرئية لإغلاق هذه الصفحة السوداء. أما حركة فتح، فقد تماهت مع واقع الانقسام، وكأن غزة، لم تعد جزءاً من ذاكرتها الثورية ولا من مشروعها الوطني. 

مع تراكُم كل هذه العوامل، وعوامل خارجية أخرى يعرفها القارئ جيداً دون الحاجة إلى تسميتها، جاءت حرب الإبادة التي ما زال وقعها مستمراً، لتكشف هشاشة البنية الداخلية، وتُعرّي الارتباك السياسي، وتضع الشعب الفلسطيني أمام واحدة من أقسى لحظاته التاريخية. أُعيد فتح ملف الوصاية الدولية، ومعه القرار 2803 الذي يؤشر إلى مرحلة جديدة من التدخل الدولي في الشأن الفلسطيني. هذه ليست مجرد قرارات، بل نتائج طبيعية لمسار طويل من الانقسام والضعف والخيارات المتعثرة.

من هنا يبقى الجوهر الحقيقي للسؤال: لماذا وصلنا إلى هنا؟

وصلنا لأننا تواطأنا بالصمت…. ولأننا قبلنا بالانقسام حتى صار جزءاً من حياتنا…. ولأن كل طرف رأى نفسه أهم من الوطن…. ولأن الخوف من الحقيقة كان أقوى من مواجهتها…. ولأننا لم نصرخ في وجه قيادتنا حين كان الوقت مناسباً. وصلنا لأن كل طرف صنع روايته، وسوّق أكاذيبه، ودفن مسؤوليته، وترك الشعب يُدفن تحت الركام.

لكن، إلى أين سنذهب إذا بقينا كما نحن؟، هل نعيد الطريق ذاته؟. هل نكرّر الخطايا ذاتها؟. هل ننتظر استكمال الإبادة لنكتشف أننا قتلنا أنفسنا قبل أن يقتلنا العدو؟، هنا، تبدأ الحكاية من جديد…. أو تنتهي إلى الأبد.

شاركها.