اخبار

اليوم التالي … الكرة في ملعب «حماس»..

يظهر المشهد الراهن في الساحة الفلسطينية حقيقتين ساطعتين: الحقيقة الأولى، إن الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، رغم الجراح والخسائر الفادحة، أبدى صموداً باهراً في وجه حرب الإبادة الإجرامية التي تعرض لها؛ وصمد على أرض وطنه رغم كل ما عاناه من أعمال قتل وتدمير ونزوح قسري ومؤامرات بما في ذلك خطة ترامب للتهجير، ما أتاح تبلور موقف دولي وإقليمي واسع وغير مسبوق، مساند للحقوق الوطنية الفلسطينية ومتمسك بحل الدولتين، ورافض لخطة ترامب باعتبارها عملية تطهير عرقي مناقضة للقانون الدولي وتتعارض مع الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. وكانت مناسبة للعديد من دول العالم لتجديد موقفها المساند لوحدة الأرض الفلسطينية في الضفة الغربية، وقطاع غزة باعتبارها وحدة سياسية واحدة. وفي المحصلة بقيت غزة وشعبها البطل صامدة في وجه العدوان، وتبددت أوهام نتنياهو بتحقيق النصر المطلق على قطاع غزة.
وكان مشهد المسيرة التاريخية المهيبة للحشود التي زحفت عائدة إلى ديارها مفعمة بالإصرار والأمل إلى حيث ركام بيوتها، أكبر دليل على تلك الحقيقة. لقد قالت تلك المسيرة كل شيء؛ وكذلك فعل الاستقبال الحار لأفواج الأسرى الأبطال الذين تحرروا من نير الأسر. وكانت «حماس» جزءاً لا يتجزأ من ذلك المشهد ودلالاته الصارخة. لقد أثبتت «حماس» وجودها مدنياً وعسكرياً؛ وتمكنت من الصمود في معركة الدفاع الباسل عن غزة رغم خسارة العديد من قادتها. ويسجل لها أنها أدارت مفاوضات وقف إطلاق النار المعقدة بحنكة ومهنية عالية، ونجحت في تحرير مئات الأسرى أبطال الحرية من خلال عملية تبادل تمت على نحو منظم وبمستوى عالٍ من الترتيب والإعلام المميز؛
الحقيقة الثانية في المشهد الراهن، هي الكارثة المريعة والأليمة التي لحقت بالشعب الفلسطيني في غزة نتيجة حرب الإبادة الإجرامية التي شنتها إسرائيل، حيث أدت إلى إزهاق أرواح ما يزيد على 48 ألف شهيد وأكثر من 110 آلاف من الجرحى والمصابين؛ وحل دمار واسع غير محسوب شمل كافة مجالات الحياة في قطاع غزة؛ حيث تم تدمير معظم البنية التحتية للمجتمع الفلسطيني هناك بما في ذلك المؤسسات الخدمية والمستشفيات والجامعات والمدارس والمرافق العامة والمنشآت الاقتصادية والإنتاجية ودور العبادة وغيرها.
إن تقييم ما حدث في 7 أكتوبر والتداعيات والنتائج التي تمخضت عنه سلباً وإيجاباً يجب ألا تتم من خلال المناكفات وتبادل الاتهامات. ومن الضروري إبداء أكبر قدر من الحذر وتلافي الوقوع في خطيئة تبرئة الاحتلال وتقديم المبررات والأعذار لجرائمه. فما حدث بكل أبعاده وتبعاته لا يمكن الإحاطة به وتقييمه من خلال انتزاعه من سياقاته وأسبابه الموضوعية، كما لا يمكن القفز عنه وتغطيته بالشعارات السياسية والخطابات التي تتغنى بالانتصارات. الجدال حول ما وقع سوف يتواصل. فهذه أحداث متداخلة جرت في ظل أوضاع معقدة من الحصار الجائر والقمع والإحباط وغياب الأفق السياسي لأي حل محتمل. ولذلك فليس مستغرباً ألا يتمكن النقاش، اليوم، من حسمها بسهولة. والاختلاف حول تقييمها قد يستمر لأمد بعيد. وربما سيحسمه التاريخ فقط.
واليوم، يتركز الاهتمام على تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار بمراحله الثلاث الذي تم التوصل إليه بعد جهد جهيد وتفاوض مضنٍ؛ بما في ذلك استكمال تبادل الأسرى وتحقيق الانسحاب وإعادة الإعمار وفك الحصار الإسرائيلي الكامل عن قطاع غزة، وصولاً إلى ترتيبات اليوم التالي لانتهاء الحرب ومسألة من يحكم غزة.
إن نظرة موضوعية لواقع القوى على الأرض في قطاع غزة تدلنا على أن نتنياهو لم يتمكن من سحق «حماس» كما توهم. فقد بقيت «حماس» قوة ميدانية موجودة عسكرياً ومدنياً على الأرض ولا يمكن تجاوزها أو تجاهلها؛ وان على الجميع أخذها بالحسبان.
العديد من الأطراف الدولية والإقليمية تعتبر «حماس» منظمة إرهابية، مرفوضة كقوة مدنية حاكمة وكقوة عسكرية مقاتلة. ومن الواضح أن فرصتها في الحصول على شرعية أو قبول دولي وحتى إقليمي هي في حكم المنعدمة. وان تمسكها بحكم غزة بعد الحرب سيحرم قطاع غزة من تلقي أي مساعدة لإعادة الإعمار، وتلبية الاحتياجات الأساسية للسكان.
ورغم ذلك فإن أي ترتيبات لإدارة قطاع غزة بعد الحرب لا بد أن تتم بالتفاهم معها وبموافقتها. فإذا كان من المتعذر عليها تحمل عبء إدارة وإعمار قطاع غزة إلا أنها تستطيع تعطيل أي ترتيبات بهذا الخصوص لا توافق عليها، سواء استلمت إدارة القطاع السلطة الفلسطينية أو أي إدارة أخرى عربية أو دولية أو محلية.
وفي ذات السياق، فإن أي ترتيبات تتعلق باليوم التالي للحرب في قطاع غزة، من الصعب أن تمر أو تكتسب الشرعية دون موافقة ومشاركة منظمة التحرير باعتبارها الجهة الشرعية وصاحبة الولاية التي تعبر عن المصلحة الوطنية وعن حقوق الشعب الفلسطيني. على أن ذلك لا يعني أن تنتظر القيادة الفلسطينية باسترخاء توجيه الدعوة لها لاستلام الحكم في غزة؛ ذلك أن لا أحد سيقدم قطاع غزة للقيادة الفلسطينية وللسلطة الوطنية على طبق من ذهب. كما أنه من قبيل الوهم الاعتقاد بإمكانية نجاحها في القيام بمسؤولياتها في إدارة وإعادة إعمار قطاع غزة دون توحيد الموقف الوطني ودون مشاركة مختلف القوى الوطنية. فقط من خلال التوافق الوطني وبالاستناد إلى وحدة القوى الميدانية للفصائل الفلسطينية على الأرض وتحديداً بالتفاهم مع حركة حماس تستطيع منظمة التحرير الفلسطينية النهوض بمسؤوليتها في إدارة قطاع غزة. كما أن مثل هذا التوافق من شأنه تمكين منظمة التحرير من التصدي لأي ترتيبات إقليمية أو دولية محتملة تتعارض مع المصلحة الوطنية ومن شأنها أن تؤدي إلى فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية من خلال تنصيب أو فرض قيادات عشائرية أو هيئات إقليمية تدير الأوضاع في القطاع بمعزل عن منظمة التحرير والسلطة الوطنية؛ وإحباط أي مشاريع مريبة كمشروع الوطن البديل والتقاسم الوظيفي والاتحاد الفيدرالي والتهجير وغيرها، والتي لا تستهدف في نهاية المطاف سوى تصفية القضية الوطنية الفلسطينية.
إن مجابهة مثل تلك التحديات تتطلب تحقيق أكبر قدر من التوافق الوطني وعلى أساس المشاركة والاحترام ونبذ سياسة الهيمنة والاستعلاء ووضع حد لنهج التفرد والإقصاء والتقوقع والتي ما زالت مع الأسف مسيطرة على المشهد الفلسطيني الداخلي.
على القيادة الفلسطينية أن تغادر نهج الانتظار والمبادرة الفورية للم الصف الفلسطيني ودعوة كافة الفصائل الفلسطينية للاجتماع وللعمل دون تلكؤ على بلورة موقف وطني موحد إزاء ترتيبات الوضع في غزة بعد انتهاء الحرب، وتفعيل مؤسسات منظمة التحرير بما فيها دعوة المجلس المركزي للانعقاد ودعوة الجميع للمشاركة فيه. والشروع بتوحيد المؤسسات الوطنية في الضفة الغربية وقطاع غزة والإعداد لإجراء الانتخابات العامة في الوقت المناسب.
«حماس» بالتأكيد تدرك تعقيدات الوضع في اليوم التالي للحرب، وهذا ما يفسر إعلاناتها المبكرة والتي اتسمت بالروح الإيجابية المسؤولة «بأنها لا ترغب في التفرد بحكم غزة» وتأكيدها المتكرر بأن «اليوم التالي هو شأن فلسطيني يقرره الفلسطينيون أنفسهم وليس أي طرف آخر».
ولا شك بأن استمرار حالة الانقسام في الساحة الفلسطينية، وبقاء حركة حماس خارج الإطار الوطني الذي تمثله منظمة التحرير من شأنه إضعاف وتشتيت الموقف الفلسطيني. وبالتأكيد فإن اندماج «حماس» داخل الإطار الوطني من شأنه أن يسهم على نحو جوهري في إعادة نهوض الحركة الوطنية الفلسطينية كحركة موحدة قوية ومنسجمة، ومن شأنه أيضاً إعادة تقديم حركة حماس للجمهور الفلسطيني كقوة وطنية شرعية تمتلك الغطاء الوطني الفلسطيني وتحظى بالقبول الإقليمي والعالمي، ويكرس مكانتها على الصعيد الداخلي كقوة وطنية توحيدية مسؤولة وذات سياسة واقعية، فحركة حماس أولاً وآخراً هي حركة وطنية فلسطينية وجزء من نسيج الشعب الفلسطيني.
إن هذا يقتضي من «حماس» مواءمة برنامجها وطروحاتها السياسية مع البرنامج الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية، الذي تلتف من حوله كافة قطاعات الشعب الفلسطيني في مختلف تجمعاته في الوطن والشتات، فقد بات من الواضح لـ»حماس» وللجميع أن المناورة باللغة لا تحل الإشكالات، وأن الشعارات ذات المضامين المزدوجة والملتبسة لا تغني عن تقديم إجابة واضحة عن الأسئلة الجوهرية: (إلى أين تريد «حماس» أن تأخذ الشعب الفلسطيني في نهاية المطاف: إلى التحرر من الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على الأراضي التي احتلت العام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وحل قضية اللاجئين على أسس عادلة وفق قرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية؟ أم إلى تحرير كامل التراب الفلسطيني من النهر إلى البحر وإلغاء دولة إسرائيل؟ هل ترغب «حماس» بعد انسحاب قوات الاحتلال بالاندماج في الحياة السياسية للمجتمع الفلسطيني ضمن القانون والنظام وحماية مصالح الشعب الفلسطيني على قاعدة القانون الواحد والنظام الواحد ودمج كوادرها في الأطر الوطنية المناسبة، أم أنها مصرة على البقاء كميليشيات غير نظامية تفرض نفسها على المجتمع بقوة السلاح؟ هل «حماس» على استعداد للالتزام بالقرار الوطني وبالاستحقاقات المترتبة عليه؟ على «حماس» أن تجيب عن هذه الأسئلة وان تتحمل مسؤوليتها الوطنية في هذه المرحلة المفصلية التي تمر بها القضية الوطنية. وحيث إنها لن تختفي من المشهد السياسي فهي تستطيع من خلال انتهاج سياسة وطنية واقعية أن تكون طرفاً رئيساً داخل المعادلة الوطنية باعتبارها ركناً رئيساً من أركان الحركة الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *