رغم اتضاح أن موقف نتنياهو وحكومته الفاشية يمثّل السبب الجوهري وراء إفشال جميع محاولات الوسطاء لإنجاز صفقة معقولة، حتى لو كانت انتقالية تؤدي في النهاية إلى وقف ما يتعرض له الغزيون من إبادة، وما ينتظر الضفة من إمعان في تقطيع أوصالها، إلا أن بعض الأصوات ما زالت تطالب فصائل المقاومة في قطاع غزة بالمغامرة بتقديم المزيد من التنازلات، بل ويتجرأ البعض على مطالبتها مباشرة أو مواربة بالاستسلام للشروط الإسرائيلية.

فنتنياهو، الذي يبدو أنه لم يغلق الباب نهائيًا أمام التفاوض على الورقة المصرية التي قبلتها حماس دون شروط، محافظًا على قنوات التواصل مع الوسطاء، ما زال يميل إلى خيار التصعيد العسكري والتلويح بتدمير مدينة غزة كما فعل في رفح، لعلّه يحقق ما فشل في إنجازه حتى الآن. يأتي ذلك رغم فداحة الثمن الذي يُحذّر منه جيشه، ليس فقط على صعيد الكارثة الإنسانية، بل وبما قد يلحق به من خسائر فادحة إذا انزلق بلا حسابات في وحل مدينة غزة، واحتمال تعاظم حرب العصابات التي قد تصبح الشكل الأبرز في المواجهة.

الأسباب الحقيقية التي تقف خلف مناورات نتنياهو هي طبيعة ومضمون استراتيجية حكومته اليمينية، التي وبفعل الانخراط الأمريكي في تبنّيها، لا تقتصر على القطاع فحسب، بل تنسحب أيضًا على ما يجري من ضمّ وتهويد في الضفة الغربية. فهي ليست مجرد أسباب تكتيكية لتحسين شروط الصفقة، بل تهدف إلى جعلها أقرب ما تكون إلى مقولة “النصر المطلق” الذي، من وجهة نظر ائتلافه اليميني، يفتح الأبواب نحو تصفية القضية الفلسطينية، لا وقف الحرب في غزة.

والسؤال الجوهري الذي يحتاج إلى نقاش هادئ بتفكيك كل عناصره هو: هل اعتراف المقاومة بـ“الهزيمة” يوقف المأساة أم يفتح الباب لمجزرة أكبر؟ الجواب المختصر: الهزيمة ليست قدرًا، و”الاعتراف بها” ليس طريقًا للنجاة، بل وصفة لتوحّش إضافي. ما يوقف المقتلة هو تغيير ميزان الكُلفة والضغط السياسي–القانوني على آلة الحرب مع صياغة تسوية إنسانية–أمنية مؤقتة، لا “اعترافًا بالغلبة” التي لا تعدو كونها شيكًا مفتوحًا للتهجير.

فما الذي نعنيه بـ“الهزيمة”؟ أهي عسكرية/تكتيكية، أي انتكاسة ميدانية كبيرة؟ أم سياسية بما تعنيه من انهيار القدرة على فرض حدٍّ أدنى من الحقوق؟ أم أنها قبول كامل برواية العدو بأن شعبًا بكامله بلا أي حقوق وطنية؟
أي إعلان بـ“الهزيمة” من وجهة نظر اليمين الفاشي الحاكم في إسرائيل يتضمن هذه المعاني مجتمعة، ويُقرأ كضوء أخضر لدفع مشروعه إلى أقصاه.

لماذا إعلان “الهزيمة” لا يوقف المأساة؟

أولًا: لأن منطق اليمين الديني–القومي الفاشي الحاكم يربط “الأمن” بالإخضاع الكامل والهجرة القسرية. رسالة الاستسلام لن تُشبع طلبه، بل ستقنعه بأن مزيدًا من البطش يُنتج مكاسب أكبر.
ثانيًا: لأن الأدوات القانونية والدولية والرافعات الشعبية والاقتصادية ستفقد قوة دفعها إذا تحوّل الخطاب الفلسطيني إلى إقرار بسقوط الحق.
ثالثًا: لأن أي اعتراف كهذا يلحق خطرًا وجوديًا بالشعب الفلسطيني برمته، بل ويسهّل تدمير المؤسسات، ويفكك الجبهة الداخلية، ويُضعف أي قدرة على منع التهجير الشامل واسع النطاق.

ما الذي يمكن أن يوقف المأساة إذن؟

قد يتمثل الحل الانتقالي في صفقة إنسانية-أمنية مؤقتة “وقف نار فوري، تبادل للأسرى والمحتجزين، عودة النازحين داخل غزة، فتح المعابر، والإغاثة عبر مؤسسات الأمم المتحدة بضمانات رقابية دولية محددة المدة. لكن التعويل الأكبر يجب أن يكون على تعظيم كلفة استمرار الحرب: قانونيًا عبر مسارات الجنائية والعدل الدوليتين، اقتصاديًا عبر المقاطعة الموجَّهة، وسياسيًا عبر تعزيز الضغوط العربية والدولية على الحكومة الإسرائيلية، وتوظيف ما يبدو من علاقات مميزة بين ترامب وبعض الدول العربية.

أما الانخراط فيما يسمى بهندسة “اليوم التالي” بما يشمل إدارة مدنية وخطة خدمات، فقد يقدّم بديلًا عمليًا انتقاليًا عن فوضى الحرب، لكنه يحمل مخاطر حقيقية بتكريس فصل القطاع عن الكيانية الوطنية، وهو العمود الفقري لاستراتيجية الائتلاف الحاكم في إسرائيل لمنع الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره وتجسيد دولته المستقلة على كامل الأرض المحتلة عام 1967.

إن أولوية منع التهجير بمنظومات صلبة تتطلب تعهّدات عربية وأممية موثقة، ومناطق حماية إنسانية مُعلنة الإحداثيات، وأرشفة ملكيات وسجلات سكانية، وتمويل “البقاء في المكان”، والتأكيد على خطة إعمار واقعية تعطي الأمل للناس على البقاء والصمود والتغلب على تداعيات الإبادة وما خلّفته من كارثة إنسانية. إلا أن ذلك يتطلب بالضرورة حكومة معترفًا بها دوليًا، وتحظى بإجماع شعبي من خلال التوافق الوطني على مكوناتها وأولوياتها وأسس عملها، من شفافية ونزاهة ومصداقية، بعيدًا عن الاستقطابات والمصالح الفئوية الضيقة.

إن تجنّب الوقوع في فخ “الاعتراف بالهزيمة” لا يعني إنكار الواقع. فالاعتراف بالكارثة لا يعني إسقاط شرعية الحقوق أو الاستسلام. البراغماتية لا تعني التنازل عن الجوهر، الأمر الذي يستدعي الجرأة في استنهاض عناصر القوة، وفي مقدمتها الوحدة والشرعية الشعبية. فقبول ترتيبات أمنية انتقالية يجب ألا ينزلق نحو الاستسلام للمنطق الإسرائيلي بفرض تفكيك الكيانية الوطنية مجددًا، وهو الفخّ الاستراتيجي الذي تسعى إليه حكومة الاحتلال.

فالهزيمة ليست قدرًا، والاستسلام لن يوقف المأساة بل سيضاعف التوحش.
جوهر المعركة الآن هو على الرواية وشرعية الحقوق، وما يستدعيانه من صلابة في التمسك بهذه الحقوق، ومرونة في الأدوات، واستنهاض الوحدة في مواجهة التهجير. هذا ما يوقف المأساة ويمنع تحولها إلى نكبة جديدة مكتملة الأركان .

شاركها.